اعداد: الطاهر عبد المحسن
مع الكاتبة (هاجر محمد الشوربجي)
هي لا تكتب لتُبهر، بل لتُبكي وتُدهش وتُوقظ.
في نصوصها صدقٌ نادر، يخرج من بين شقوق التجربة الإنسانية، كأنها مرآة للحلم والخذلان معًا.
الكاتبة (هاجر محمد الشوربجي) تفتح لنا قلبها قبل دفترها، لنكتشف أن أجمل ما في الكتابة… صدقها.
من هي الكاتبة (هاجر محمد الشوربجي) كما تراها في مرآتها الخاصة؟
أنا فتاة في عقدي الثالث، أعيش حياتي ببساطة وربما بخجل أحيانًا حين أطلق على نفسي لقب “كاتبة”، رغم أن الكتابة صارت لي أكثر من مجرد كلمات على ورق؛ هي أداة أتنفس بها وأحاور من خلالها ذاتي والعالم من حولي.
نشأتُ في بيت يحبه الأدب والقراءة، حيث كان أبي يعشق الكتب، فورثت منه هذا العشق الذي رسخ بداخلي حب الكلمة والصفحة البيضاء.
أحببت الكتابة حتى صارت لي يدان تجيدان التعبير عن كل ما أُحسّ به، وأيضًا لوصف آلام الآخرين ومعاناتهم في هذه الحياة التي لا تقدم لنا سوى القسوة أحيانًا.
الكتابة عندي ليست بحثًا عن المجد أو الضوء، بل مساحات خاصة أختبئ فيها، أواجه فيها وجعي، وأحتفي بحلمي، وأصلح فيها نفسي بهدوء.
أنا التي أكتب كي أفهم كياني، كي أتواصل مع نوافذ في داخلي لا يراها أحد، وأفتح أبوابًا جديدة رغم ما تحمله الحياة من قسوة، لأن في الكتابة، رغم كل شيء، هناك نوع من الشفاء والحرية.
متى شعرتِ لأول مرة أن الكتابة ليست هواية، بل هوية؟
أنا لم أقرر ذلك، بل الكتابة هي التي قررت أن تسكنني.
في البداية كنت أكتب لأتسلّى، لأفرغ ما لا يُقال، لأرتّب فوضى مشاعري.
لكن في بداية مرحلتي الجامعية، وبين دفاتر المحاضرات، كتبت عن وجع لم يكن لي، عن حكاية لم أعشها، وشعرت أنني أراها بقلبي لا بعيني.
حينها أدركت أنني لا أكتب فقط، بل أُترجم الأرواح، وأُعيد تشكيل الشعور.
فهمت أن الكتابة ليست شيئًا أمارسه، بل شيئًا أكونه.
هي ليست هواية أمارسها في وقت الفراغ، بل مرآتي التي أرى فيها نفسي، وصوتي حين يخونني الكلام، ومكاني حين لا أجد مكانًا، هي امتدادي، وذاكرتي، وملجئي، ومنذ تلك اللحظة، أصبحت الطريقة التي أكون بها أنا، وهويتي التي لا تنفصل عني،
أكتب لأتعرّف على نفسي،
وأُعيد بناءها حرفًا حرفًا، كأنني أُخيط قلبي بخيوط من حبر.
ما العلاقة بين مشاعرك الشخصية وما تكتبين؟
أنا لا أكتب من فراغ، كل حرف أكتبه هو امتداد لنبضة، وكل جملة هي أثر شعور مرّ بي أو سكنني.
مشاعري ليست مجرد خلفية للنص، بل هي النسيج ذاته، الخيط الذي يربط بيني وبين الورق.
حين أفرح، أكتب كأنني أرقص، وحين أحزن، أكتب كأنني أضمّ نفسي بالكلمات.
الكتابة عندي ليست فعلًا منفصلًا عن الإحساس، بل هي ترجمة صادقة له،
حتى حين أكتب عن الآخرين، أجدني أستعير من قلبي ما يلزم لأفهمهم،
أكتب وجعهم كأنني عشته.
أنا لا أكتب لأصف فقط، بل لأشعر، لأتواصل، لأُشفى.
مشاعري هي الحبر، والكتابة هي الطريقة التي أُعيد بها ترتيب نفسي حين تتبعثر.
هل تفضلين الكتابة بالليل أم في ضوء النهار؟ ولماذا؟
أنا أحب أن أكتب حين يمتليء صدري بالكلمات، حين تتراكم في داخلي كالسحب قبل أن تسقط مطرها.
أحتاج إلى أن أفرغ تلك العواصف اللغوية قبل أن تخنقني، كي أتنفس بحرية وأعود إلى هدوئي.
الكتابة عندي ليست مرتبطة بالليل أو النهار، بل هي حالة داخلية تنمو وتتوهج في توقيتها الخاص.
ولكن هذا لا ينفي أنني أحب الليل أكثر، لأنه أهدأ من ضجيج النهار المزدحم بالأشخاص.
هل تمرّين بمرحلة مراجعة وتعديل للنصوص بعد كتابتها؟
نعم، أنا أمر بمرحلة مراجعة وتعديل بعد الكتابة، وأعتبرها جزءًا لا يتجزأ من العملية الإبداعية.
حين أنتهي من النص، لا أراه مكتملًا، بل أراه مسودة أولى تنبض بالإحساس لكنها تحتاج إلى تهذيب.
أراجع لأتحقق من صدق الشعور، من وضوح الصورة، من تناغم الإيقاع.
التعديل عندي ليس تصحيحًا فقط، بل هو حوار داخلي بيني وبين النص، أستمع فيه لما أراد أن يقوله ولم ينجح، وأمنحه فرصة ثانية ليبوح.
وأحيانًا، أترك النص يومًا أو أكثر، ثم أعود إليه بعين أخرى، كأنني قارئة لا تعرفني، لأرى إن كان ما كتبته يستحق أن يُقال ويخرج إلى النور، أم لا.
كيف ترين تفاعل القراء مع نصوصك في المنصات الأدبية؟
أنا لا أكتب لأُدهش، بل لأُلامس، وأتعجب كثيرًا حين يقع الأشخاص في حب نصوصي ويعجبون بكلماتي.
أحيانًا أتساءل: هل حقًا تستحق نصوصي هذا الإعجاب، أم أن آلامي التي شكلت الحروف هي التي لمست قلوبهم؟
حين يكتب لي أحدهم: “كلماتك تشبهني”، أشعر أن النص قد وصل إلى حيث يجب، وأن الحبر الذي خرج من وجعي أصبح جسرًا بين قلبي وقلوبهم.
تفاعل القراء بالنسبة لي ليس مجرد إعجاب أو تعليق، بل هو مرآة أرى فيها أثر ما كتبت، هو ذلك الصمت الذي يسبق الرد، وتلك الرجفة التي تسبق المشاركة.
وأتساءل دائمًا: هل سيكون لنصوصي نفس الأثر لو لم تكن ولدت من رحم الألم؟
هل كانت الكتابة لتكون هويتي، والصوت الذي لا يخونني، لو لم تتكثف في صمت اللحظات الحزينة؟
هل تعتبرين الحزن مصدر إلهام أم عبئًا على الإبداع؟
أنا لا أبحث عن الحزن، لكنه يأتي أحيانًا كزائر ثقيل، يطرق بابي دون استئذان.
وحين يفعل، لا أُغلق الباب في وجهه، بل أُجلسه أمامي وأكتب.
الحزن لا يُلهمني لأنه جميل، بل لأنه صادق، لأنه يكشف لي وجهي الحقيقي، ويجعلني أكتب بلا زينة.
هو ليس عبئًا على الإبداع، بل اختبار له،
فإن استطعت أن أكتب وأنا حزينة، أن أُخرج من داخلي نصًا يحملني ولا يُسقطني،
فهذا يعني أن الكتابة عندي ليست رفاهية، بل ضرورة.
الحزن يجعلني أكتب ببطء، لكن بعمق،
يجعلني أختار كلماتي كما يختار الجريح ضماداته،
وأحيانًا، يكون النص الذي خرج من لحظة حزن،
هو النص الذي يشبهني أكثر من أي شيء آخر.
برأيك، هل الكاتب يعيش أكثر من حياة من خلال كلماته؟
نعم، أنا أؤمن أن الكاتب يعيش أكثر من حياة من خلال كلماته، بل ربما يعيش حيوات لا تُحصى.
فكل نص هو نافذة، وكل شخصية يكتبها هي وجه جديد يرتديه، وكل شعور يصفه هو نبضة إضافية في قلبه.
أنا، حين أكتب، لا أكون فقط هاجر، بل أكون تلك الأم التي تنتظر ابنها، والعاشقة التي تخاف الاعتراف، والغريب الذي يفتش عن الوطن.
أعيش في زمن لا يشبه زمني، وأتنفس من صدور لم ألتقِ بها، وأحزن على وجوه لم أرها،
كأن الكتابة تمنحني قدرة خارقة على التقمّص، على العبور بين الأرواح، على أن أكون أكثر من واحدة.
الكاتب لا يكتب فقط، بل يسافر، ويتقمّص، ويُشفى، ويُجرَح، ويولد من جديد في كل نص.
هو لا يعيش حياة واحدة، بل يعيش كل حياة استطاع أن يصفها بصدق،
وكل حياة تجرّأت على المرور من قلبه إلى الورق.
ما أكثر ما يخيفك في الكتابة؟
أكثر ما يخيفني في الكتابة هو أن أكتب كل ما في قلبي، ثم لا يشعر به أحد.
أن أُعرّي روحي على الورق، وأقدّمها كما هي، ثم تمرّ الكلمات كأنها لم تكن.
أخاف أن أكون صادقة أكثر من اللازم، في زمن يُفضّل الزينة على العمق،
أن أكتب وجعي، فيُقرأ كزخرفة، لا كصرخة.
أخاف أيضًا من لحظة الصمت بعد الكتابة،
حين أنتهي من النص وأتساءل: هل قلت ما أردت؟ هل خذلت شعوري؟
وأخاف من أن تُصبح الكتابة عادة، لا نبضًا،
أن أكتب لأنني يجب، لا لأنني أحتاج.
الكتابة بالنسبة لي فعل حياة،
وحين تفقد حرارتها، صدقها، ارتجافتها الأولى،
أشعر أنني أفقد شيئًا من نفسي،
وأخاف أن أعتاد ذلك.
ماذا تمثل لك مجلة إيفرست كمنبرٍ أدبي؟
أنا أراها كيدٍ ممدودة للموهبة، كمنصة لا تكتفي بأن تُصفّق للنص، بل تحتضن الكاتب نفسه.
مجلة إيفرست بالنسبة لي هي مساحة آمنة، تُشبه القلب حين يُفتح لك دون شروط،
تؤمن بالمواهب الشابة، لا لأنها مكتملة، بل لأنها صادقة،
وتتبنّى الكلمة حين تكون في أولى خطواتها، وتقول لها: “هنا مكانك، هنا نراك.”
لو عدتِ لبدايتك، ما النصيحة التي تقدمينها لنفسك؟
لو عدت إلى بدايتي، سأقول لنفسي:
اكتبي كما لو أن لا أحد يقرأك، وراجعي كما لو أن الجميع سيقرؤونك.
ولا تخافي من البدايات المرتبكة، ولا من النصوص التي لم تكتمل،
فكل حرف تكتبينه الآن هو خطوة نحو صوتك الحقيقي،
وكل لحظة شكّ هي جزء من نضجك الأدبي، فلا تتعجلي النضج، ولا تستعجلي الإعجاب.
سأعلّمها أن الكتابة ليست سباقًا، بل رحلة،
وأن الصدق أهم من البلاغة،
وأن النص الذي يُشبهك، حتى لو كان بسيطًا، أقوى من ألف نصٍ لا يحمل روحك.
وسأذكّرها أن الحزن ليس عيبًا،
وأن الكتابة من الألم ليست ضعفًا، بل شجاعة،
وأن كل مرة كتبت فيها لتنجو، كانت تكتب أيضًا لتُنقذ غيرها.
ما الحلم الأدبي الذي ما زال ينتظرك في الأفق؟
أن أصدر كتب كثيرة تحمل اسمي، أن تصل كلماتي إلى من لا يعرفني، أن يقرأني غريب في مدينة بعيدة، ويشعر أنني أكتب عنه، أن تترجم نصوصي إلى لغات أخرى، وتحتفظ بروحها، وأن تبقى كلماتي حية، حتى حين أموت أنا.
الختام
حين تتكلم الروح، تصمت اللغة احترامًا.
وحين تكتب (هاجر محمد الشوربجي)، تشعر أن الورق يتنفس معها.
ليس المهم ما يُقال، بل ما يُحسّ، وما يبقى فينا بعد أن نغلق الصفحة.






المزيد
ياسر شرف… مرشد الحضارات وصانع الجسور بين الشرق والغرب
صوت يروي المشاعر: حوار مع الأستاذة ماجدة، أفضل فويس أوفر 2024
مهزلة أن تكون أنت: رحلة الحبر والأمل مع ملاك يحيى عبدالله النجار