صباح الخير

Img 20250216 Wa0094

 

ملاك عاطف

أنا ضحى، وجئتكم اليوم؛ لأرويَ لكم قصتي الّتي حكم عليها هذا اليوم العالميّ بالخروج من ظلمات الإسرار إلى نور قلوبكم.

ما سأحكيه لكم هو درب حلمٍ لا يغيب عن بالي قطّ، ومشوار سعيٍ بدأته بهذه الخطوة، خطوة البوح بكل تفاصيل الحكاية، من أصغرها إلى أكبرها.

ذات صباح، كنت أجلس في المقعد الخلفيّ بشرود، أنكمش على نفسي، وأمسك بأصابع ترتعش خوفًا ووحدة، أمسك قلم تلوينٍ غامقٍ وأرسم به خطوطًا عشوائيّةً على ورقةٍ مزّقتها عمدًا، ويسبق خطوطي إليها دمعي المقهور. كنت أقبض كفي الأيسر على منديلٍ فتّتته دموعي أيضًا، أفعل هذا بحركةٍ عشوائيّةٍ خاليةٍ من أيّ معنى، كنت أودّ الهروب من واقعي، الهروب فقط.

كانت أنظاري معلّقةً في الفراغ، حيث غرفتي الخالية إلّا مني، والمقعد الّذي أجلس عليه في الفسحة أنا وظلّي، وهواء الشجار المزعج الّذي يمرّ بين كرسيّي وكرسيّ رفيقتي ريم. 

ضحى، ضحى. هل أنت مركّزةٌ معنا في النقاش؟

سمعتها تنادي اسمي، لكن نداءها كان مبحوحًا يخرج من بئرٍ عميق، أو هكذا تخيلته.

-نعم، المعذرة أيتها المعلمة، لم أسمع سؤالك. هلّا أعدته علي من فضلك؟

نظرت إلى الورققة التي أمامي، ثمّ إلى عينيّ.

-ضحى، تعالي إلى مكتبي بعد انتهاء الحصة، أحتاجك في مهمّةٍ ضروريّة.

كنت أعلم أنّها لا تريد مني شيئًا؛ فأنا لا أبادر ولا أتطوع، ومستواي الدراسيّ في تدنٍّ ملحوظ، ولكنها لم تشأ أن تحرجني أمام زميلاتي، ولم ترد لفت الانتباه إليّ كذلك.

بعد بضع دقائق، انتهت الحصّة، ولحقت المرشدة إلى مكتبها، أنا الّتي لم تثق يومًا بمرشدة، ولم تتخيّل نفسها تطأ أرض مكتبها أو تحادثها، كنت أشعر أنّها تخبر بقية الكادر التعليمي بكل ما يدور داخل جدران غرفتها، كنت دائمًا أتخيل الجدران بثقوبٍ كثيرة، بل بمايكروفوناتٍ ملتصقةٍ بالطّوب تسرّب كل كلامنا، حتّى همسنا.

دخلت غرفتها وأنا أنوي الإبقاء على كتماني، وبدأت أبحث في ذهني المشوش عن مبرّراتٍ أقدّمها لها حين تستفهم عن سبب شرودي في الحصّة، سأقول لها أيّ شيء، أيّ شيء عدا الحقيقة.

-ضحى، كيف حالك يا حبيبتي، هل من شيءٍ يضايقك؟

-لا، أبدًا.

نظرت إليّ بعينين تفيضان حنانًا ودفءا، حتّى رأيت فيها وجه أمّي الغائبة خلف ستار المجهول.

-ضحى، من أنا؟

-المعلمة رحمة.

-بل أنا أختك الكبرى، وأمّك، وصديقتك، وأنا أنت إذا أردتِ، بل إنّي كل أولئك مجتمعات.

-شكرًا، هذا شرفٌ وسعدٌ لي، لكن صدقيني أنا بخير، وأعتذر على تصرّفي، لن يتكرر، أعدك، هل تسمحين لي بالمغادرة؟

لمحت رجفة صوتي، ودفعتها لمعة الحزن في عيني خطواتٍ نحو الأمام، دنت منّي، وقبّلت جبيني، وربّتت على كتفي بهدوءٍ رقيق، ثمّ احتضنتني دون أن تنطق بحرف.

كنت ما زلت مصرّةً على التّماسك، لكنّ حنانها واهتمامها الصّادق غلباني، ومنحاني رفاهيّة الانهيار.

-أنا هنا لأجلك، قولي لي، ماذا بك يا صغيرتي؟

قرّرت أن أكون صغيرتها فعلًا، لفترةٍ قصيرةٍ فقط؛ فقد استطاعت أن تنفي كلّ ظنوني، وكنت محتاجةً فعلًا إلى الفضفضة.

-والدتي أسيرة، وأنا وحيدة، ووالدي منهمك في عمله طيلة الوقت، أشعر بوحدةٍ خانقة، وتهاجمني التهيّؤات البشعة باستمرار. ريم خاصمتني قبل يومين؛ لأنّي رفضت مساعدتها في الاختبار، وأنا لا اغش، ولم أكن قد درست أصلًا.

ظللت أحكي وأحكي، وصرت كتابًا مفتوحًا أمامها، تقرؤني بضعفي، ووجعي، وحيرتي، وحزني. 

ظلّت تنصت إليّ دون مقاطعة، ولمّا فرغت من الكلام، همست إليّ بحنوّ: -لا بأس، أنا هنا، إلى جانبك، وسنتخطّى كلّ هذه المشكلات معًا، أنا أؤمن بك يا حلوتي، وتدهشني قدراتك، أنت مميّزة ومجدّة، ونحن هنا كلّنا أمّهاتك، لا تخشي شيئًا.

رنّ الجرس وأعلن اختتام جلستنا.

هممت بالمغادرة، فاحتضنت كفّي البارد بين كفيها وقالت: أنتظرك غدًا، لا تتأخّري عليّ.

عدت إليها ثانيةً وثالثةً وعاشرة، واستطاعت أن ترشدني إلى خطّةٍ تحسّن مستواي الأكاديميّ، وتحدّثت إلى ريم؛ من أجلي، وتصالحنا. ليس هذا فقط، بل إنّي لم أعد أشعر بالخوف أو الوحدة، وعزمت الأمرَ على أن أحتذي بها، وأتبع أثرها الطيّب. نعم، سأصير مرشدةً رحيمةً عطوفةً كمثلها، أهب طلّابي الأمان، والثّقة، والرّاحة النفسيّة، والنّصائح الذهبية لحياةٍ أفضل.

تمت بحمد الله

عن المؤلف