بقلم: الشيماء أحمد عبد اللاه
كأن الريح تهمس باسمي، وكأن الزمن عقد صفقة مع الخيال، فوجدتني جالسًا أمام آلة زمن باردة الملمس، تشع نورًا باهتًا كعينيّ عجوز يروي حكايات قديمة.
ضغطت الزر بحذر، فشعرت بدوّار خفيف، ثم اختفى العالم من حولي ليظهر آخر مألوف بقدر ما هو بعيد، أمامي يقف طفل صغير، عيناه واسعتان كسماء لم تلمسها غيوم، ووجهه نقي كنهر لم يعبره زورق، إنه أنا، لكن قبل أن تضع الأيام أوزارها على كتفيه.
ترددت للحظة، كيف أبدأ الحديث؟ كيف عليّ أخبره أنني ظله الذي كبر؟ اقتربت منه ببطء، وانحنيت لأكون في مستوى عينيه، رأيت فيه براءة فقدت جزءًا منها بين طيات الزمن.
ابتسمت وقلت: “مرحبًا أيها البطل!”، ضحك ضحكة نقية، ترددت في الأفق كصدى ذكريات لم تُمحَ بعد.
أمسكت يديه الصغيرة، شعرت بدفء لا يعرفه إلا من احتضن طفولته للحظة، سألني ببراءة: “من أنت؟”، ابتسمت بحنان وقلت: “أنا صديق من المستقبل، أتيت لأقضي يومًا معك، هل تسمح لي؟”
قررنا قضاء اليوم بين الأماكن التي كانت ملاذًا له، حقل الزهور الذي كان يركض فيه كفراشة لا تعرف القيود، وزاوية مكتبته الصغيرة حيث كان يغرق بين صفحات الحكايات كبحار تائه في محيط من الخيال.
رأيت فيه شغفًا لم تفترسه السنين بعد، طموحًا لم يبتلعه روتين الحياة، وضحكته لم يخنقها ضجيج المسؤوليات، شعرت برغبة جارفة في أن أحميه، أن أُبقي على نقائه، أن أحصنه من كل ما عرفته لاحقًا من خيبات.
لكني أدركت أن الألم جزء من النضوج، وأن الجروح هي التي تشكّل ملامحنا، لذا، لم أُرد أن أحذره من الحياة، بل أردت أن أهديه حكمة تجعل طريقه أقل وعورة.
جلست بجانبه تحت شجرته المفضلة، نظرت إلى عينيه الواسعتين وقلت: “استمر في الحلم، لا تسمح لأحد أن يرسم حدودًا لأحلامك، ستواجه عثرات، ستبكي أحيانًا، لكن لا تخف من الدموع، إنها تغسل القلب وتمنحه القوة.”
ترددت للحظة قبل أن أضيف: “لا تخشَ الفشل، فهو معلمك الأول، ولا تنسَ أن طيبتك ليست ضعفًا، بل هي قوة قلّ من يمتلكها.”
سألني بفضول وحماس: “هل سأصبح بطلًا؟”، ضحكت وقلت: “ستكون بطلًا في معاركك الخاصة، وقد تخسر أحيانًا، لكنك ستتعلم النهوض مجددًا، في النهاية ستكون بطلاً.”
حين بدأت الشمس تميل نحو المغيب، شعرت بأن الزمن يدعوني للرحيل، احتضنته بقوة، كأنني أحتضن ما تبقى من براءتي، همست في أذنه: “ابقَ نقيًا كما أنت، ولا تنسَ أن تكتب قصتك بنفسك، فقلمك دائمًا في يدك.”
ابتعدت خطوة، فابتسم لي ابتسامة أخيرة، ثم تلاشى المشهد ببطء، وعدت إلى حاضري، لكنني شعرت بأن شيئًا ما قد عاد معي، ربما كانت براءتي، أو ربما كان الشغف الذي أيقظته نظرة طفل صغير.
عدت إلى مكتبتي، أمسكت بقلمي، وبدأت أكتب؛ لأنني أدركت أن أجمل القصص هي تلك التي تبدأ من طفولة لم ننسَ ملامحها.
المزيد من الأخبار
أسطورة الرجل الذي أحب
وسط الطريق المظلم
مكالمة بعد منتصف الليل