لعنة سنموت

Img 20250228 Wa0016

كتبت منال ربيعي 

 

وُلد الأمير سنموت تحت ظلّ نبوءة كُتبت بماء الخوف على جدران القدر؛ “سيقتله أفعى أبيب أو يمزقه تمساح سوبك”. كانت النبوءة أشبه بحكم إعدام مؤجل، تهمس بها الرياح في ممرات القصر، ويتناقلها الكهنة بنظرات واجفة. حاول والده الملك كسرها، أن يهرب منها كما يهرب الضوء من قبضة الظلام، فقدم القرابين، سأل الآلهة، وأحاط ابنه بأسوار من الذهب والسيوف. لكنه نسي شيئًا واحدًا… أن الإنسان لا يهرب من قدره، بل يلتقي به في نهاية الطريق.

 

لم يكن القصر موطنًا لسنموت، بل كان سجنه. كل خطوة يخطوها كانت محسوبة، كل نظرة من والده كانت مليئة بالخوف أكثر من الحب. كأنه يرى فيه شبح الموت القادم، وليس ابنه. وحين ضاق صدره بسلاسل الحذر، اتخذ قراره. في ليلة بلا قمر، حين خلد الجميع إلى النوم، امتطى حصانه الأسود، ذاك الذي لم يسمحوا له بركوبه خوفًا من أن يسقط، وضغط على جانبيه بكعبيه، فانطلق به كالسهم، يبتلع المسافات ويعبر الحواجز كما يعبر الحلم إلى الحقيقة.

 

بلاد الغرباء.. والأميرة إليس

 

ظل سنموت هائمًا في الصحاري والمدن، يبحث عن نفسه وسط الرمال والظلال. لم يكن يهرب من اللعنة، بل كان يبحث عن شيء يعادلها قوة، عن شيء يجعل للحياة معنى قبل أن يختطفه الموت. وفي إحدى القرى البعيدة، سمع قصة أغرب من الخيال، عن أميرة تُدعى إليس، جميلة كفجر لم تشرق شمسه بعد، حُبست في برج شاهق منذ أن بلغت سن الزواج، بأمر والدها الذي لم يجد لها من يستحقها. كان التحدي بسيطًا في ظاهره، قاتلًا في جوهره؛ “من يستطيع القفز إلى شرفتها، يكون زوجها”.

 

الفرسان تسابقوا، البعض سقط، والبعض هرب، وآخرون ظلوا هناك، ينظرون إلى البرج بعجز، كأنهم أمام جبل لا يُقهر. لكن سنموت لم يكن فارسًا عاديًا، لم يكن يقاتل من أجل المجد أو الجائزة، بل كان يقاتل من أجل إثبات أن لا شيء يستحيل على من يجرؤ. لم ينظر إلى الارتفاع، لم يفكر في السقوط، فقط أطلق العنان لحصانه الأسود، تركه يركض كعاصفة رملية، وحين اقترب من البرج، شدّ لجامه بقوة وقفز.

 

لم يشعر بشيء سوى الهواء يمزّق ثيابه، وقلبه يدق كطبل الحرب، ثم… اصطدمت قدماه بأرض الشرفة، وسقط زجاج النافذة تحت ثقله، فوجد نفسه داخل الغرفة، أمام الأميرة.

 

كانت إليس تنتظره، لكن ليس بدهشة، لم تصرخ ولم تخف، بل كانت عيناها العميقتان تحملان يقينًا غريبًا، كأنها تعرف أنه سيصل، كأنها انتظرته منذ الأزل. اقتربت منه، نظرت في عينيه كأنها تبحث عن شيء خفي، ثم علّقت حول عنقه تميمة مقدسة، وقالت بصوت ناعم لكنه مليء بالقوة:

 

“هذه التميمة منحتها الآلهة لي منذ طفولتي، لأهبها لمن يستحقها… والآن وجدتك.”

 

لم يكن الأمر مجرد تحدٍّ للفروسية، بل كان اختيارًا للقدر.

 

العودة إلى طيبة.. ولقاء الموت

 

عاد سنموت إلى طيبة ليس ليطلب المغفرة، بل ليؤكد لوالده أن الخوف لا يصنع الملوك، وأن من يُقيّد ابنه بالسلاسل خوفًا عليه، لا يفعل سوى أن يقتله ببطء. لكن القدر كان ينتظره عند ضفاف النيل، حيث وقف تمساح ضخم، ليس كأي تمساح، بل كان يحمل في عينيه وميض الإله سوبك نفسه. لم يكن حيوانًا، بل كان رمزًا، اختبارًا، ربما كان الموت نفسه.

 

لم يتراجع سنموت، لم يهرب، بل ركض نحوه، قفز فوق ظهره، وغرس سيفه في جمجمته، فاهتز الماء تحت قدميه، ثم هدأ… وسكنت العاصفة.

 

لكن قبل أن يستعيد أنفاسه، سمع صوتًا يزحف خلفه، صوتًا ليس من هذا العالم. استدار، فرأى أفعى ضخمة، أفعى أبيب، السوداء كظلام لا فجر له، تزحف نحوه ببطء كأنها تُمهله لحظة قبل النهاية.

 

كان هذا هو اللقاء الذي انتظره طيلة حياته، اللقاء الذي هرب منه ثم عاد ليواجهه. رفع سيفه عاليًا، وعيناه تشتعلان كأنهما تعكسان ضوء شمس لن تغيب، وقال بهدوء:

 

“لن أهرب بعد اليوم… إن كان هذا قدري، فليكن.”

 

وهجم عليها…

 

النهاية… أم البداية؟

 

ما الذي حدث بعدها؟ هل قتل الأفعى، أم أنه سقط ضحية للّعنة؟ أم ربما كان عليه أن يفهم أن المواجهة الحقيقية لم تكن بالسيف، بل بالإيمان بقدره؟

 

هذه ليست نهاية القصة… بل بدايتها الحقيقية.

عن المؤلف