كتبت منال ربيعي
كانت تراقب النيل بشغف لا ينقطع، زرقة مياهه تتلو عليها صلوات قديمة تطمئن قلبها. لا عجب أنهم كانوا يعبدون هذا النهر الخالد. ألقت نظرة خاطفة، تريد فقط سيارة واحدة تطوّق زجاجها لتنال بعض النقود، عسى أن تحصل على لقيمات تسكت وحش الجوع الذي يلوك أمعاءها بلا رحمة منذ الأمس.
نظرت إلى السماء تستغيث، والبرد يخمش وجهها بأظافره الحادة ويلطمها بصفعات متتالية. يداها المتجمدتان لم تعدا تحميانها من صفعات البرد القارسة. تمنت لو كانت تملك لقمة واحدة في غرفتها الصغيرة؛ لما كانت لتأتي هنا في هذا البرد، لكن ما باليد حيلة.
اقتربت سيارة فخمة من كشك العم علي، وقفت على الفور أمامها ومسحت الزجاج بسرعة خارقة. يداها أصبحتا تعملان بميكانيكية مذهلة. وقفت أمام السائق الذي نظر لها نظرة بلا معنى وأخرج لها ورقة بنية من فئة العشر جنيهات. رفعت حاجبيها فرحًا ودعت له دعوات كثيرة. كان في الخلف رجل كبير السن ذو هيئة رسمية، على فمه جهاز تنفس. أزاحه قليلًا لينطق ببعض الكلمات للسائق:
“أعطِها هذه”.
مدّ يده بورقة فئة المائتي جنيه. أخذتها غير مصدقة، وأغلق السائق الزجاج وانصرف. أخذت تحدق في وجه الكاتب المصري على الورقة وتقبّله بفرح، ثم دست تلك الورقة في صدرها. انطلقت لتشتري شطيرة فول تسكن بها ذلك الجوع القاتل.
جلست على الرصيف تقضم الشطيرة بنهم؛ فقد كاد الجوع يفتك بها. لكنها شعرت أن فرج الله قد أتى، فهو يرعاها دومًا، وتلحظ حمايته وفرجه في كل خطوة. انطلقت بهمّة وفرح تنظف زجاج السيارات، وتأخذ ما يعطيها لها الناس دون سخط أو سباب لمن يمنعها.
كانت تراقب السماء من وقت لآخر؛ فغروب الشمس يعني نهاية اليوم بالنسبة لها، فهي لا تقوى على مشاكسة الأشقياء المغيبين بفعل المخدرات، الذين ينتشرون كالشياطين ليلًا. أخذت تجمع بعض قصاصات الجرائد لتدخلها في ملابسها كي تنام دافئة؛ فالخرقة الممزقة التي تتدثر بها أوشكت على التحلل من شدة التمزق، ولا تملك المال لشراء غطاء.
جمعت بعض صفحات الجرائد من القمامة وأخذت تقرأ بعض العناوين عن محدودي الدخل ودعم التعليم. تذكرت مدرستها التي تركتها وهي في الصف السادس حين ماتت أمها. أما أبوها، فلا تعرف عنه إلا أنه يدعى صابر عبد القوي. هي بسمة صابر عبد القوي، بسمة التي لا تكف عن الابتسام في وجه كل هذا البؤس الذي تعيش فيه.
اقتربت من الغرفة التي تسكنها في أسفل بناية عتيقة بحي السيدة عائشة. دلفت الباب بصمت حتى لا تسمعها أم السعد فتطالبها بأجرة الغرفة كعادتها. دخلت دون أن تُضيء الغرفة، تسللت وهي تحمل شطيرة الفول. خلعت حذاءها المهترئ ومددت جسدها المتعب على فراشها الصغير، ضمت يديها لصدرها وأغمضت عينيها بتعب. زفرت براحة؛ فلم تلحظ أم السعد دخولها.
نهضت، أضاءت شمعة صغيرة بعود ثقاب، وأخذت تلتهم الشطيرة على عجل. أخرجت المائتي جنيه وقبلتها، تستنشق عطرها الأخّاذ. نعم، للنقود عطر رائق يخطف القلب، عطر يحمل في عبيره أمانًا بأنك تملك طعامك ونومك وراحة جسدك، وتكف يد الناس عنك. علّها تتملك تلك المائتي جنيه كل يوم. عقلها الصغير أخذ يحلم ويتمنى، حتى فزعت من ضربات متتالية تبعها فتح الباب بشكل عنيف.
دخلت أم السعد بصوتها الصارخ، وأمسكت بتلابيبها، وأشبعتها سبابًا ولطمًا. تبع ذلك دخول رجل ضخم، أمسكها كريشة بين يديه وألقاها خارج الغرفة. لم تجد توسلاتها نفعًا. لكنها تفقدته بنظرة تعرفها جيدًا، نظرة تجردها من كل ملابسها بينما ينهشها بعينيه. قال بلهجة أخافتها:
“تقعدي تخدمي الرجالة اللي جاية، وتعرفي تعملي شاي؟”
قالت بخوف:
“أنا بعرف أعمل شاي. بس والنبي، هعمل شاي، بس صدقني أنا مش من إياهم. أنا غلبانة ويتيمة. استر عليا، ربنا يسترها عليك”.
ازدرد ريقه وابتلع شعورًا لم تفهمه. بقيت إلى جوار الحائط، تقاوم البرد والخوف. كلما نطق هذا الضخم، انتفضت وصنعت الشاي أو أوقدت النار على بعض الفحم. ملأوا غرفتها السابقة بالدخان، لكنها جلست على الرصيف الخارجي للحجرة تراقبهم وتتحاشى رائحة ما يدخنون.
كانت تنظر إلى السماء متوسلة، والخوف يمزقها والبرد يلطمها. حتى دخلت الحارة سيارة سوداء تبدو غالية الثمن جدًا، ونزل منها ذلك الشخص الذي أعطاها المائتي جنيه في الصباح. نظر لها بعطف ومدّ يده نحوها.
نهضت، والبرد أجهز على عظامها حتى فتها. لم تعد تقدر على الحركة. مشت ببطء وأمسكت يده:
“عايز حاجة، يا بيه؟”
قال:
“تعالي معايا، هقولك”.
يتبع…
المزيد من الأخبار
وتفاقمت المسافات
وتفاقمت المسافات
وتفاقمت المسافات