مجلة ايفرست الادبيةpng
...

مجلة ايفرست

مجلة ايفرست الأدبية

كتاب: الهارب والمطارد – فلسفة التعلّق والانسحاب بقلم الكاتب هاني الميهى

كتاب: الهارب والمطارد – فلسفة التعلّق والانسحاب بقلم الكاتب هاني الميهى

الفصل الثاني:

الهارب لا يهرب عبثًا

 

الجزء الثاني

يا قارئي العزيز،

قد تظنّ أن الهارب فقد شجاعته، لكنه في الحقيقة فقط استبدل نوعها.

فالشجاعة ليست دائمًا في المواجهة،

بل أحيانًا تكون في أن تُغلق الباب بهدوء، وتمضي دون أن تلتفت،

رغم أن قلبك لا يزال يقف خلفه ينزف.

الهارب لا يهرب من الأشخاص فقط،

بل من الأصوات التي تعيد وجعه في رأسه كل ليلة.

يهرب من الذكريات التي لم تجد طريقها إلى النسيان،

ومن الأسئلة التي لم تعد تبحث عن إجابات بل عن راحة.

يهرب لأنه تعب من تفسير نفسه في عالمٍ لا يسمع إلا صوته.

هناك هروبٌ يرمم، وهروبٌ يهدم،

والهارب الحكيم هو من يفرّ ليعيد بناء ذاته،

لا من يهرب ليختبئ إلى الأبد.

لذلك، لا تحكم على من اختار الرحيل،

فربما لو بقي، لانكسر.

وربما لو تكلم، لضاع أكثر.

أتعرف يا قارئي،

أن أكثر الناس هروبًا هم أولئك الذين أحبّوا بصدق؟

لأنهم أعطوا دون حساب،

فلما لم يجدوا التقدير، لم يجدوا أيضًا القدرة على البقاء.

إنهم لا يهربون لأنهم لا يملكون القوة،

بل لأنهم تعبوا من استخدامها في المكان الخطأ.

الهارب يهرب من التكرار.

من نفس الوجع في أشكالٍ جديدة.

من نفس الحديث بوجوهٍ مختلفة.

يهرب حين يشعر أن الصبر صار عبئًا لا فضيلة،

وأن المحاولة صارت نزيفًا لا حبًا.

وفي كل مرةٍ يهرب فيها،

يظن أنه يترك خلفه الألم،

لكن الحقيقة أنه يأخذه معه — فقط يضعه في مكانٍ أعمق داخل قلبه.

ذلك المكان الذي يبتسم فيه كثيرًا،

لكنه في الليل، ينهار في صمته كطفلٍ فقد أمه في الزحام.

يا قارئي،

الهارب لا يحتاج إلى من يعيده، بل إلى من يفهمه.

فمن يفهمه لا يسأله: “لماذا تركت؟”

بل يقول له: “كم تألمت لتفعل ذلك.”

ولذلك،

حين ترى هاربًا، لا تلاحقه،

فربما كل ما يحتاجه هو أن يشعر أن هناك من لن يُجبِره على البقاء.

دع له مساحةً يتنفس فيها دون أن يشعر بأنه مراقَب،

فالهارب حين يُطارد، يهرب أكثر،

لكن حين يُفهم، يعود بنفسه.

 

#الهاربوالمطاردفلسفةالتعلقوالانسحاب

#هانى_الميهى