مجلة ايفرست الادبيةpng
...

مجلة ايفرست

مجلة ايفرست الأدبية

كتاب الهارب والمطارد – فلسفة التعلّق والانسحاب بقلم الكاتب هانى الميهى

كتاب الهارب والمطارد – فلسفة التعلّق والانسحاب بقلم الكاتب هانى الميهى

الفصل الثالث: اللعبة الصامتة بين الاثنين

 

الجزء الثالث

يا صديقي القارئ،

أتعجب أحيانًا من قدرة الإنسان على البقاء في لعبةٍ يعلم مسبقًا أنها ستكسره.

يدرك أنها مؤذية، ومع ذلك لا يغادرها،

وكأن شيئًا في داخله يجد لذّته في الوجع،

أو كأن التناقض بين الخوف والرغبة صار غذاءً لروحه المتعبة.

الهارب يعلم أنه يُرهق المطارد،

لكنه لا يستطيع العودة،

فكل خطوة إلى الأمام تُشعره بأنه مكشوف،

وكل عودةٍ تُثير فيه فزع الفقد القديم الذي لم يشفَ منه بعد.

أما المطارد، فيعلم أنه يلاحق سرابًا،

ومع ذلك لا يستطيع التوقف،

فكل توقفٍ يعني اعترافًا بالهزيمة،

واعترافًا آخر بأنه تعلّق بصورةٍ لا وجود لها.

ما أغرب النفس البشرية حين تحبّ ما يؤذيها،

وتتشبث بما يُفلت منها كل مرة!

كأنها تبحث لا عن الحب، بل عن المعنى،

تريد أن تفهم لماذا انفتح الباب ثم أُغلق،

لماذا اقترب أحدهم حتى تخيّلته حياة،

ثم انسحب وكأنه لم يكن يومًا.

في هذه اللعبة، لا يوجد شرير واضح.

كلاهما ضحية خوفٍ قديم.

الهارب يخاف أن يُلتهم،

والمطارد يخاف أن يُنسى.

الهارب يتقن الصمت لأنه يخاف المواجهة،

والمطارد يتقن الملاحقة لأنه يخاف الصمت.

كلاهما يهرب بطريقته، وكلاهما يطارد بطريقته.

إنها معركة بين جرحين، لا بين شخصين.

الهارب يحمل ذاكرة الخذلان،

والمطارد يحمل ذاكرة الهجر.

وما دام الماضي لم يُدفن،

فلن يعرف الحاضر سلامه أبدًا.

ولعلّ أصدق ما في هذه اللعبة هو الانتظار.

ذلك الانتظار الصامت الذي يملأ الليالي،

حين يترقّب المطارد إشارة عودةٍ،

ويترقّب الهارب لحظة شجاعةٍ لا تأتي.

وكأن كليهما في سجنٍ من المرآة،

كلٌّ يرى الآخر في انعكاس نفسه،

لكن لا أحد يستطيع العبور.

يا صديقي،

إن استمرار هذه اللعبة ليس بسبب الحب،

بل بسبب الحاجة العميقة لأن يشعر الإنسان أنه مهمّ في حياة أحدهم،

حتى ولو كان هذا الإحساس مؤلمًا، هشًّا، مؤقتًا.

فالألم أحيانًا أكثر صدقًا من الخواء،

والمطاردة أصدق من الصمت الذي لا يُشير إلى شيء.

 

#الهاربوالمطاردفلسفةالتعلقوالانسحاب

#هانى_الميهى