مجلة ايفرست الادبيةpng
...

مجلة ايفرست

مجلة ايفرست الأدبية

فلسفة التناقض في النفس البشرية بقلم سميرة السوهاجي 

فلسفة التناقض في النفس البشرية بقلم سميرة السوهاجي

‏تأملات في صراع الإنسان مع ذاته بين النقص والاكتمال

‏ “منذ أن نظر الإنسان إلى مرآته الأولى، لم يرَ وجهه فقط، بل رأى خلف عينيه صراعًا لا يهدأ.”

‏ذلك الصراع الصامت بين ما يريد وما يجب،

‏بين ما يطمح إليه وما يخاف منه.

‏النفس البشرية ليست كيانًا واحدًا مستقيمًا،

‏بل هي ساحة من الأصوات المتضاربة،

‏كل صوتٍ فيها يدّعي أنه الحق،

‏وكلها تلتقي في قلبٍ واحدٍ حائرٍ لا يهدأ له قرار.

‏ الإنسان كائنٌ من تناقض

‏لقد أدرك الفلاسفة منذ القدم أن الإنسان كائنٌ متناقض بطبيعته.

‏رأى أفلاطون أن النفس تتكوّن من ثلاث قوى:

‏العاقلة، والغضبية، والطبيعة البشرية الغريزية.

‏وحين يختلّ التوازن بين هذه القوى، يولد الصراع الداخلي.

‏أما الغزالي فاعتبر أن الإنسان يعيش بين نفسٍ أمّارةٍ بالسوء ونفسٍ مطمئنة،

‏وصراعهما هو جوهر التجربة الإنسانية، ومحور بحثه الدائم عن السلام.

‏ التناقض ليس عيبًا… بل جوهر الحرية

‏إن التناقض في النفس ليس عيبًا يُستحى منه،

‏بل هو ما يجعل الإنسان حرًّا بحق.

‏فلو كان منسجمًا تمامًا مع ذاته، لانتفت عنه الإرادة،

‏ولما عرف معنى الخير أو الشر، ولا ذاق طعم الاختيار.

‏”الخير لا يُفهم إلا بوجود ميلٍ إلى ضده،

‏والنور لا يُقدَّر إلا حين تتسلل الظلمة إليه.”

‏🔹 رحلة الإنسان بين النقص والسمو

‏في أعماق كل إنسانٍ ميلٌ إلى السيطرة على ما حوله،

‏حتى على مشاعره وأفكاره، فيُرهق نفسه في سبيل الكمال،

‏ويغفل أنه خُلق من ضعف،

‏ليظلّ محتاجًا إلى ربه، متواضعًا أمام ذاته.

‏النفس تريد أن تحلّق، لكنها تخاف من العلوّ.

‏تبحث عن الأمان، لكنها تشتاق إلى المغامرة.

‏تسعى للسكينة، لكنها لا تهدأ إلا وسط الحركة.

‏”إنها تريد الشيء ونقيضه في آنٍ واحد،

‏كأنها تحمل في داخلها شمسًا وقمرًا،

‏يتناوبان على ضوء حياتها بين وضوحٍ وظلال.”

‏⚖️ في التناقض تنمو الحكمة

‏وهكذا يعيش الإنسان بين الرغبة في الانطلاق والخوف من السقوط،

‏بين قلبٍ يهمس له أن يمضي، وعقلٍ يأمره أن يتريّث.

‏لكن من هذا الصراع تولد التجربة،

‏ومن الألم ينبثق الوعي،

‏ومن التناقض تنمو الحكمة التي تُكسب الإنسان عمقه الإنساني.

‏☀️ فلسفة التوازن

‏فليست النفس سجنًا نريد الهروب منه،

‏بل كونًا واسعًا نتعلم كل يومٍ كيف نعيش فيه بسلام.

‏وحين نتصالح مع هذا التناقض، ندرك الحقيقة الكبرى:

‏أننا لا نسعى إلى الكمال،

‏بل إلى التوازن الذي يقودنا إلى السلام مع الله ومع أنفسنا.

‏ في عمق كل نفس ميزان خفي،

‏يميل حين يطغى جانب على آخر،

‏ويستقيم حين نصغي لنداء الفطرة لا لضجيج الرغبة.

‏التوازن ليس سكونًا، بل حركة واعية بين النور والظل،

‏ولا هو ضعف، بل قوة من يعرف متى يتقدّم ومتى يصمت.

‏فمن أدرك أن الطمأنينة لا تُشترى،

‏وأن السلام لا يُنتزع بالقوة بل يُزرع بالإيمان،

‏فقد بلغ جوهر الحكمة،

‏وسار مطمئنًّا في درب الله حيث تسكن الأنفس بعد طول صراع….