مجلة ايفرست الادبيةpng
...

مجلة ايفرست

مجلة ايفرست الأدبية

رحلة النور الأخير  بقلم أمجد حسن الحاج 

رحلة النور الأخير  بقلم أمجد حسن الحاج

 

في صمتٍٍ تتصدّعُ الأرض تحت أقدامِ الراحلين، والنجومُ من فوقهم تُحدّقُ كأنّها شاهدةٌ على عهدٍ قَديمٍ نُكِث، وميثاقٍ خُذِلَ في الظلمات.

يقفُ رجلٌ بلباسٍ من نورٍ في وسطِ ساحةٍ من غُبار الأرواح، تحيطُ به ظلالٌ بشريةٌ تتنفسُ السواد، تهمسُ بما لا يُفهم، كأنّها أطيافُ ندمٍ لم تكتمل توبتها.

الريحُ ساكنة، والهواءُ مُثقلٌ بملحِ الحنين، والسماءُ المظلمة تُرسلُ شُعاعًا وحيدًا يتدلّى من الأبدية، ليغسلَ رأسَ ذلك الواقفِ في منتصف الفناء، كأنه علامةُ اصطفاءٍ من بين التائهين.

 

وجههُ ثابتٌ كجبلٍ يواجهُ الريح، وخطاهُ لا ترتجف، مع أنّ الأرضَ من تحتهِ تئنُّ كأنها تخشى نوره. خلفهُ صمتٌ كثيفٌ يتنفسُ الخوف، وأمامهُ يقينٌ لا يُرى، يبتعدُ بخطواتٍ من نارٍ نحو مكعّبٍ يضيءُ في البُعدِ الغامض، كأنه قلبُ الكون، أو لبّ الحقيقة التي هرب منها الجميع.

الظلالُ خلفهُ لا تُبصرُ إلا ظهره، والعتمةُ تزدادُ كلّما تقدّم، كأنّ النورَ يهربُ منهُم إليه، وكأنّ في روحهِ وعدًا لا يُخلف، ونداءً لا يسمعهُ سواه.

 

كلُّ شيءٍ حولهُ ميتٌ إلا بصيرته، وكلُّ شيءٍ أمامهُ غامضٌ إلا الطريقُ الذي يسكنُ صدره. العطشُ في العيونِ، والخوفُ في الأنفاس، والأرضُ المتشققةُ تبتلعُ بقايا الندم.

ذلك النورُ البعيدُ لا يُقاسُ بالمسافة، بل بالإيمان، ولا يُنالُ بالعين، بل بالثباتِ على الوجع.

هو لا يسيرُ نحو المجهول، بل نحو الإجابة، نحو ذلك السرِّ الذي خُلِق لأجلهِ البشرُ ثم أنكروا معرفته، نحو البداية التي ظنّوها نهاية، والنهاية التي تخفي خلفها بدءًا آخر.

 

السماءُ هناك تفتحُ بابًا من نجومٍ، والأرضُ تنشقُّ عن صدى الصمتِ الأبدي، والظلالُ من حولهِ تتهاوى كأوراقٍ بلا جذور.

يقتربُ من الضوءِ، فتتلاشى الحدود، وتغيبُ الملامح، ويذوبُ الحاضرُ في الخلود.

تتبدّلُ الرؤية، ويصيرُ هو الضوءَ، ويغدو المكانُ سرًّا لا يُروى، والزمانُ حكايةً بلا بدايةٍ ولا انتهاء.

 

وهناك، في عمقِ المشهد، يتّضحُ أن الوقوفَ وحدكَ لا يعني الوحدة، وأن مواجهةَ الظلامِ ليست نهايةَ الطريق، بل بدايتَه الحقيقية، وأنّ الإنسانَ حين يُضيءُ بنفسه، يُصبحُ هو الطريقُ ذاته، لا سالكه.

 

إنها رحلةُ الروحِ حين تُساقُ إلى قدرها الأخير، حين تعودُ إلى النور الذي منها خُلِقت، بعد أن أنهكها العبورُ في العتمة.

وتبقى الأرضُ بعدهُ صامتة، والنجومُ شاهدة، والظلالُ عبرةٌ لأولئك الذين لا يجرؤون على المضيّ في دربِ النور وحدهم.