حوار مع عمر سعيد حول روايته “بيادق على رقعة الجريمة”

Img 20250219 Wa0063

 

 

إعداد: الشيماء أحمد عبد اللاه

 

 

روايتك “بيادق على رقعة الجريمة” حملت عنوانًا مثيرًا ومليئًا بالدلالات، ما الفكرة الرئيسية التي أردت إيصالها من خلال هذا العمل؟

 

“كل شيء يقع وفق الضرورة… حتى ما نظنه حرية”، هكذا كتب ديموقريطس منذ قرون، وكأنه يصف رقعة الحياة التي تتحرك عليها بيادق روايتي.

 

في هذه الرواية، الجريمة ليست مجرد فعل معزول، بل هي مبدأ كوني متأصل في بنية الوجود نفسه. لم أرسم قاتلًا وضحية، بل رسمت لوحة أوسع تتداخل فيها الأدوار، حيث يصبح كل شخص بيدقًا في رقعة شطرنج تُحركها أيادٍ خفية، بعضها مرئي، وبعضها غارق في ظلال القدر والمصادفة.

 

العنوان هو المفتاح لهذه الرؤية: “بيادق”، لأننا جميعًا قطع في لعبة أكبر، و**”رقعة الجريمة”**، لأنها ليست مجرد مسرح للأحداث، بل هي العالم الذي نحياه، حيث لا يوجد فعل بريء تمامًا، ولا نية خالصة لا تشوبها شائبة.

 

إنني لا أسأل في الرواية: من ارتكب الجريمة؟ بل أسأل: هل الجريمة ممكنة الحدوث فعلًا، أم أنها كانت محتومة منذ اللحظة الأولى؟

 

 

 

يتردد صدى أعمالك الأدبية في وجدان القراء دائمًا، فما الذي يميز هذا العمل الجديد عن رواياتك السابقة؟

 

“إن المرء لا يعبر النهر نفسه مرتين”، قالها هيراقليطس، ولم يكن يقصد الماء فحسب، بل التجربة البشرية ذاتها.

 

كل رواية هي انعكاس للزمن الذي كُتبت فيه، و”بيادق على رقعة الجريمة” ليست استثناءً. ما يميز هذا العمل عن أعمالي السابقة هو أنه لا يكتفي بطرح سؤال الجريمة، بل يسائل البنية التي تجعلها ممكنة. الرواية ليست عن الحدث الإجرامي، بل عن فكرة الجريمة كحتمية تاريخية واجتماعية ونفسية.

 

استخدمتُ في هذا العمل تقنية السرد المتعدد الأصوات، بحيث لا يوجد راوي واحد يملك الحقيقة، بل تتداخل الأصوات لتكشف أن “الحقيقة” ليست إلا مجموعًا من الزوايا المتباينة، وأن كل شخص في الرواية يرى العالم بطريقة مختلفة، لكنه لا يستطيع أن يرى الصورة الكاملة.

 

في رواياتي السابقة، كنتُ أقود القارئ عبر دهاليز الغموض، أما هنا، فقد تركته وحيدًا أمام متاهة بلا مخرج، حيث لا يوجد يقين، بل احتمالات تتصارع في ذهنه حتى بعد أن يغلق الصفحة الأخيرة.

 

 

بصفتك مترجمًا بارعًا، كيف أثرت الأعمال التي ترجمتها على تطور أسلوبك الأدبي، وهل هناك صدى لهذا التأثير في “بيادق على رقعة الجريمة”؟

 

الترجمة ليست مجرد نقل للغة، بل هي عبور إلى ذهنية الآخر، تجربة وجودية تشبه، في جوهرها، الوقوف بين عالمين لا ينتميان إليك بالكامل. لقد علمتني الترجمة أن كل نص هو في النهاية خيانة لصاحبه، لأنه يُعاد تكوينه في لغة جديدة، بزوايا جديدة، وبحتميات جديدة.

 

هذا الإدراك انعكس بوضوح في “بيادق على رقعة الجريمة”. الرواية نفسها مكتوبة كأنها “مترجمة” من واقع آخر، حيث الشخصيات ليست متأكدات مما إذا كانت أفعالهن نابعة من إرادتهن، أم أنها مجرد انعكاس لسيناريو كُتب مسبقًا.

 

لقد تأثرت في هذا العمل بالفلسفة الوجودية التي انغمست فيها أثناء ترجمة نصوص كامو وسارتر، وبالسرد الياباني الذي يتلاعب بالزمن والذاكرة، وبالبناء النفسي العميق للأدب الروسي. النتيجة كانت نصًا يبدو في ظاهره قصة بوليسية، لكنه في عمقه محاولة لسبر أغوار المصير الإنساني ذاته.

 

 

 

كيف تنظر إلى الجريمة بوصفها محورًا لروايتك؟ وهل ترى أن الأدب قادر على تقديم حلول لقضايا معقدة مثل هذه؟

 

“إن الإنسان لا يولد مجرمًا، بل يصبح كذلك”، كتب روسو، لكنه أغفل شيئًا: في بعض الأحيان، لا يكون لدينا خيار.

 

الجريمة في هذه الرواية ليست مجرد خرق للقانون، بل هي مرآة تكشف هشاشة النظام الذي يُفترض أنه يحافظ على “العدالة”. ماذا لو كانت الجريمة هي النتيجة الحتمية لكل ما سبقها؟ ماذا لو كان الفعل الإجرامي مجرد نقطة في سلسلة لا نهائية من الأسباب والنتائج، بحيث لا يمكن فصل الجاني عن الضحية؟

 

الأدب لا يقدم حلولًا، لأنه ليس محكمة ولا شريعة، لكنه يملك سلاحًا أشد فتكًا: القدرة على جعل القارئ يرى الأمور من زاوية لم يكن يدركها من قبل. لا أريد أن أبرّئ أحدًا في هذه الرواية، لكنني أيضًا لا أريد أن أدين أحدًا. كل شيء معلق في منطقة رمادية، حيث الأخلاق ليست مطلقة، والقرارات ليست مستقلة تمامًا عن العالم الذي أنتجها.

 

 

بعد هذا الإنجاز، ما الذي ينتظر قراءك في المستقبل؟ هل هناك مشاريع أدبية أخرى تلوح في الأفق؟

 

“على الكاتب أن يكتب وكأن موته وشيك”، قال نيتشه، وكأنه يضع القاعدة الذهبية لكل عمل جديد.

 

بعد “بيادق على رقعة الجريمة”، أدركت أنني لم أصل إلى النهاية، بل إلى بداية جديدة. هناك مشاريع تتبلور، بعضها يتمرد على شكل الرواية التقليدية، وبعضها يقترب أكثر من الحافة الخطرة بين الأدب والفلسفة. أفكر في عمل يتعامل مع الزمن بطريقة تجعل الماضي والمستقبل ينهاران داخل بعضهما، عمل لا يكون مجرد قصة تُروى، بل تجربة يعيشها القارئ حتى يفقد القدرة على التمييز بين الواقع والمتخيل.

 

كما أنني أعمل على بحث موسع حول “الجريمة في الأدب”، ليس من منظورها البوليسي، بل بوصفها فعلًا وجوديًا يكشف عن طبيعة الإنسان في لحظاته الأكثر هشاشة وقوة في آنٍ واحد.

Img 20250219 Wa0064

 

ختامًا…

 

عمر سعيد ليس مجرد كاتب جريمة، بل هو فيلسوف يطرح أسئلة بلا إجابات، ويضع القارئ أمام مرآة يرى فيها وجهه للمرة الأولى كما لم يره من قبل.

 

“بيادق على رقعة الجريمة” ليست مجرد رواية، بل تجربة فكرية تجرّد الجريمة من معناها التقليدي، وتكشف أنها ليست فعلاً فرديًا، بل لعبة يلعبها الجميع، حتى أولئك الذين يظنون أنهم أبرياء.

 

بانتظار إبداعاته القادمة، التي بلا شك ستكون أكثر عمقًا، وأكثر جرأة، وأكثر قدرة على زعزعة اليقين ذاته.

عن المؤلف