كتبت منال ربيعي
على شواطئ البحر الأبيض، حيث تتلاطم الأمواج عند أقدام المعابد الرخامية، وُلدت ميدوسا. لم تكن وحشًا، لم تكن لعنة، بل كانت فتاةً من لحم ودم، أجمل من أن تتجاهلها أعين البشر والآلهة. شعرها كان أنهارًا من الذهب، وعيناها تلتمعان كنجمتين في سماء صافية، لكنها لم تكن فخورة بجمالها، بل كانت تخشاه.
كانت كاهنةً في معبد أثينا، وهبت نفسها لعبادتها، عذراءً لا يمسها بشر، نقيةً كالماء الذي تغسل به أرض المعبد كل صباح. لم يكن قلبها يعرف سوى الطمأنينة، ولم تكن تتمنى أكثر من أن تظل في ظل الإلهة التي أحبّت خدمتها.
لكن في إحدى الليالي، حين كانت تقف وحدها بين أعمدة المعبد، شعرت بظل ثقيل يقترب، بأنفاس البحر المالحة تحاصرها، وبقوةٍ تتجاوز قدرة البشر. لم تحتج إلى النظر لترى من يكون، فقد عرفت.
بوسيدون.
إله البحر، الجبار الذي لا يجرؤ أحد على رفضه، رأى ميدوسا وأرادها. لم ينظر إليها ككاهنةٍ مقدسة، لم يرَ إلا الجمال الذي يليق بأن يكون له. لم يُعر حرمة المعبد اهتمامًا، ولم يسمع صرخاتها وهي تحاول الفرار. أمسك بها، جرفها كما تجرف الأمواج الحطام، حطمها كما تحطم العواصف السفن. وحين انتهى، تركها هناك، باكيةً فوق حجارة المعبد، ترتجف من هول ما حدث، غير مدركةٍ أن العاصفة الحقيقية لم تبدأ بعد.
حين بزغ الفجر، وقفت ميدوسا أمام تمثال أثينا، جسدها منهك، قلبها ينزف، عيناها تتوسلان رحمةً لم تأتها أبدًا. كانت تظن أن إلهتها ستحميها، أن العدالة ستنتصر، لكنها لم تجد في وجه الإلهة سوى البرود. لم تغضب أثينا من بوسيدون، لم تعاقبه، فهو إلهٌ مثلها، أما ميدوسا؟ فهي مجرد فتاةٍ ضعيفة، ومصير الضعفاء أن يدفعوا ثمن خطايا الأقوياء.
بصوتٍ كالرعد، نطقت أثينا لعناتها:
“أردتِ الجمال فكان لعنتكِ، أردتِ الطهارة فصارت عاركِ، أردتِ أن لا يلمسكِ بشر فها أنتِ لن يجرؤ أحد على الاقتراب منكِ بعد الآن!”
تجمدت ميدوسا في مكانها، شعرها يلتف حولها كالأفاعي، جسدها يرتجف من الألم، ثم صرخت. لم تكن صرخة بشر، بل زئير وحش، هدير مخلوقٍ لم يعد ينتمي لهذا العالم. وحين فتحت عينيها، كانت اللعنة قد اكتملت.
أصبحت نظرتها موتًا، كل من يجرؤ على النظر في عينيها يتحول إلى حجر، إلى تمثالٍ يخلد خوفه الأبدي. لم يعد أحدٌ يراها امرأة، لم تعد حتى تُذكر كضحية. أصبحت ميدوسا الوحش، أصبحت الخطر الذي يحذرون منه الأطفال، أصبحت الأسطورة التي يتباهى الأبطال بقتلها.
وحين جاء بيرسيوس، لم يكن يحمل سيفًا فقط، بل كان يحمل إرادة العالم كله في إنهاء وجودها. لم يرَ الحزن في عينيها، لم يفكر إن كانت تستحق هذا المصير. رفع السيف، فقطع رأسها، وحمله معه كغنيمةٍ يقدّمها للملوك.
لكن حتى بعد موتها، لم تنتهِ القصة. من دمها ولدت أجنحة الخيول، ومن عينيها انبثقت قوىً لا تزال تخيف البشر حتى اليوم. وربما، في كل امرأةٍ خذلها العالم، في كل ضحيةٍ لم يُنصفها أحد، لا تزال ميدوسا تعيش، لا تزال تنظر إلى العالم بعينيها المحطمتين، تتساءل بصمت:
“ماذا لو لم أكن جميلة؟ هل كنت سأعيش؟”
المزيد من الأخبار
أسطورة الرجل الذي أحب
وسط الطريق المظلم
مكالمة بعد منتصف الليل