كتبت منال ربيعي
لم أرَ امرأةً قط بتلك الجاذبية، عيونها تسرني وتقتلني. لم أجرؤ على الحديث معها. هل هذا خوف أم رهبة؟ تشعرني أنها ساحرة، تقدر أن تلعني بطلسم، لكن عينها تملك سحر طلاسم قديمة في كتب سحر منسية. كلما رأيتها تخرج من بيتها، أشعر أنها ملكة تغادر مملكتها. رغم بساطة مظهرها، تملك شموخًا وكبرياءً ورونقًا غير عادي. لا تضع مساحيق التجميل قط، لكنها تملك بشرة خمرية ساحرة. أراقبها، ولكني أرغب بشدة في استنشاق عطرها ممزوجًا برائحتها. ألمس بشرتها، أمرر شفتي على كفها المخملي، أقبل خصل شعرها الأرجواني. آه من تلك الأماني المستحيلة! إلى متى أذوب عشقًا في امرأة قد لا تعلم أنني على قيد الحياة؟ الأمر مضحك، رجل مثلي، ذاب في الجميلات، عشقه وصال وجال في مغامرات العشق، يخاف امرأة بعيون جارحة، يخشى قربها ويموت ألف مرة في بعدها.
هل أخطفها أم أتصنع أي سبب لأكون قربها؟
سأذهب إليها وأفتعل أي حديث لأتحدث معها.
عبر الشارع واقترب منها:
“مساء الخير.”
هي (بتساؤل واستهجان): “مساء الخير.”
هو (بتلعثم ولجلجة): “كان فيه موضوع كنت عايز أكلم حضرتك فيه، لو أمكن، مش هاخد من وقتك خمس دقايق.”
هي: “هنا في الشارع؟ طيب، الموضوع عن أي؟ بخصوص إيه؟”
هو (بتلعثم لكنه مصمم على إقناعها، قال بجدية): “كانت فيه حاجة وقعت من حضرتك، وكنت مكسوف أديها لك. ممكن لو تحددي وقت أجي لحضرتك أديها لك.”
هي (بشغف): “حاجة إيه؟ ما اعتقدتش إنه وقعت حاجة مني. وإمتى أصلاً؟”
هو (بثقة): “عندي شغل حالياً، وهي في البيت. ممكن أجي لحضرتك بعد الشغل، أكون جبتها.”
هي (باستسلام): “مفيش مشكلة، شرف في أي وقت. أكيد حضرتك عارف البيت هنا.”
هو (هز رأسه بثقة): “تمام، فرصة سعيدة.”
مر الوقت بثقل كبير، وكأنه أيام طويلة وليست بضع ساعات.
وتخطى المسافة بين شارعه وشارعها بسعادة تغمره من رأسه إلى أخمص قدميه.
اقترب من بيتها المميز، مثلها، كأنها حورية تسكن جنة صغيرة وسط ازدحام البنايات العملاقة والأبراج الشاهقة. كانت ياسمين تعيش في منزل صغير أمامه حديقة صغيرة تفوح منها روائح عطرية تملأ روحه. كلما مر بجوار بيتها، هدوء خاص يملأ المكان، وكأنه فراغ زمني يعود لحقبة بعيدة عن زمان الصخب والصراخ والجنون.
اقترب من البيت وضغط على الجرس. فتحت البوابة الخشبية، ووجد الورود تملأ المكان. وفي ركن صغير، توجد طاولة خشبية وكرسي صغير. رحبت به ليدخل المنزل، وملأ صدره روائح فاكهة الفراولة المعتقة بالسكر. أغمض عينيه وترك لروحه العنان. قادته روحه واتبعت صوتها، وجلس على أريكة جلدية فخمة أمامها طاولة. يصدح صوت موسيقى عمر خيرت من ركن ما، كأنه أتى من زمن بعيد. رحبت به بدفء ورقّة، قدمت عصير فراولة طازج ووضعته أمامه.
لاحظ ملابسها الرقيقة، كانت ترتدي فستانًا قطنيًا أبيض موشى بزهور حمراء وأرجوانية. شعرها معقود بمشبك شعر فضي.
ياسمين: “شرفتنا، اتفضل العصير.”
هو (مد يده وأعطاها كيسًا مخمليًا بلون أحمر): “دي وقعت منك من كام يوم، ومشيتي ملحقتش أديها لك.”
ياسمين (أمسكت الكيس بنظرة متفحصة): “اتشرف باسم حضرتك طيب. أنا كنت باخد بالي منك، لكن مكنتش أعرف اسمك.”
هو (رد بخجل): “اسمي شوقي، هو قديم شوية 😅.”
هي (بابتسامة رقيقة): “اتشرفت، أستاذ شوقي.”
فتحت الكيس المخملي لترى مشبك شعرها الذهبي، كفراشة براقة. لمعت عينها فرحًا: “متشكرة أوي، دبوس الشعر ده غالي عندي أوي.”
شوقي: “هدية من جوزك؟”
ياسمين (باستنكار): “لا، من والدي، الله يرحمه.”
شوقي: “الله يرحمه، متأسف.”
ثم قال: “أنا شامم ريحة مربى فراولة، أنتي بتعملي كمية؟ لأن الريحة جابتني من وأنا برا البيت.”
ياسمين (ضاحكة): “أه، فعلاً أنا بعمل مربى وعصاير بيتي، وبيعهم على صفحة صغيرة ليا. مشروع كده تسلية جمب شغلي.”
شوقي: “أنتي بتشتغلي إيه؟”
ياسمين: “بكتب مقالات وقصص في مجلة إلكترونية، وبروح أوصل الطلبات للزبائن بنفسي.”
شوقي: “أسفة لو كنت متطفل.”
ياسمين: “خالص، اتشرفت بمعرفتك أوي. اشرب العصير وقولي رأيك.”
شوقي: “هشرب، وعايز أدوق المربى لو أمكن. ممكن أعمل أوردر، أنا بحب المربى البيتي جدًا. أمي، الله يرحمها، كانت بتعملها.”
ياسمين (بنظرة أسفة): “الله يرحمها أوي. وأول أوردر هدية مني كمان.”
قامت وأحضرت طبقًا بلوريًا صغيرًا مليئًا بالفراولة زاهية اللون، وجلست جواره. تمد له ملعقة صغيرة مليئة بالمربى. رأته يحمل الكوب، فمدت يدها بعفوية إلى فمه. التقم الملعقة، وكانت يدها الأخرى أسفل ذقنه. سقطت بضع قطرات من المربى على كفها. وضع الكوب على الطاولة، وقبل كفها وارتشف قطرات المربى التي عليها. تأوهت بصوت خفيض فور أن لمست شفتيه كفها. بعدها، مال برأسه على وجهها وشاهد شفتيها الشهية عن قرب. اقترب بأنفاس لاهثة وتذوق طعمها، وارتشف رحيقها. تأوهت واستفاقت.
ارتعشت وابتعدت في لحظة خاطفة بينهما. قبلة فصلت بين الموت والحياة. أحياها، أم هي من أحيت قلبه؟
شوقي همس في شوق: “بعدتي ليه؟”
ياسمين ردت بخجل: “متأسفة، أنا ورايا شغل.”
تأسف منها كثيرًا وانصرف، يملؤه الخجل والخزي.
المزيد من الأخبار
لا تحرق نفسك
يصبح الصمت خيانة
استغفار