كتبت: خولة الأسدي
كلُّ الأماكنِ دونك غارقةٌ في ظلامِ الصمتِ.
وأينما حلَّ بصري، وجد علاماتِ الاستفهامِ تصرخ فيه مطالبةً بك.
فهناك، حيث كنا نجلسُ للحديثِ، الذي تتلقى فيه كلماتي بانبهارٍ يفتنني، وتناقشني في التفاصيلِ بفهمٍ يسحرني، فلا أجدُ بدًّا من التعبيرِ عن مشاعري في النهاية، التي تكون حواسُّك متأهبةً لها من قبلِ أن نبدأ حتى، كما يشيرُ ردُّ فعلك حين أفتحُ ذراعيَّ داعيةً إيّاك لعناقٍ طويلٍ، فتسارعُ لتلبيةِ الدعوةِ كعاشقٍ مجنونٍ أعمى، لا يرى أمامه شيئًا سوى وجهِ محبوبِه، لتتفاجأَ بي أصرخُ: انتبه لكوبِ الشاي، أيها المتهوّر!
وتتمُّ عمليةُ الإنقاذِ في آخرِ ثانية، فأقول لك بتعجُّبٍ: يا لك من مجنونٍ! يبدو أني لو فتحتُ لك ذراعيَّ وأنتَ على سطحِ مبنًى، لن تفكّرَ للحظةٍ قبل رميِ نفسِك لتحظى بعناقي!
فتقهقهُ مؤمنًا، ثم تعيدُ ترديدَ كلماتي ضاحكًا عليها، أو ربما على المشهدِ الذي تصوّره، أو ربما من نفسِك، لكنك كنتَ تضحك، وذلك المهمُّ بالنسبة لي، أنا العاشقةُ لقهقاتِك الآسرةِ، التي تقعُ على سمعي، ليتلقفَها قلبي فتنمو حدائقُ السعادةِ في أرجائه، وتغردَ العصافيرُ بألحانٍ ليست إلا صوتَ ضحكاتِك يترددُ بأكثرِ من نغمةٍ.
ويبدو العالمُ جميلًا، والحياةُ تستحقُّ أن تُعاش؛ لأنك فيها، يا فرحَ العمر، وعوضَ الأقدار، ومواساتَها لفؤادٍ كان على شفا الاحتضار، فأتيتَ لتُحييه، ثم غادرتَه مسلمًا إيّاه لمعاناةِ الفقدِ والضياعِ بعدك، يتجرّعُها في كلِّ التفاصيل، وتجددُها الثواني المحملةُ بالذكرياتِ، ولا ينفعُ الدمع، ولا تُجدي الآهاتُ شيئًا، أمام حزنٍ لصيقٍ بالروحِ، ولا خلاصَ منه ولو بعمرٍ من النواحِ!
وهناك، يا حبةَ القلب، هناك حيث كنتَ تتكئُ جالسًا لمشاهدةِ التلفازِ، فأغارُ منه حين أمرُّ ولا تلتفتُ نحوي، فأبتلعُ حنقي حينًا، وأتقدّمُ لملاطفتِك للاستحواذِ على انتباهِك أحيانًا أخرى.
والآن فقط تنبّهتُ إلى أنك كنتَ تقومُ بذاتِ الشيءِ معي، حينما كنتَ تجدني متوحدةً مع هاتفي، فأصرخُ فيك غاضبةً: ألا ترى ما أنا فيه؟ أهذا الوقتُ المناسبُ لمشاعرك الجياشة؟!
واعذرني على غبائي، الذي لم يستوعب تصرفاتِك حينها، فلم أدرك أن المحبينَ يغارون من أتفهِ شيءٍ يشعرون أنه يسرقُ اهتمامَ أحبّائهم منهم، ولو كان هاتفًا أو تلفازًا!
ويقتلني الخواءُ الموحشُ، الذي لا أعلم هل تسللَ من كياني، ليحتلَّ كلَّ ما حولي، أم تسللَ إلى روحي بعد بسطِ نفوذه على كلِّ ما حولي!
لكني أعلمُ أني أبكيك، وكلُّ الزوايا تفعل، وأني أفتقدُك، وكلُّ الأماكن تفعل، وأن البيتَ أصبح مقبرةً كئيبةً، يراقصُ الصمتُ الظلالَ في أرجائها، وأقبعُ في حجرتي الموحشةِ، مستسلمةً لغيبوبةِ نومٍ رافضةٍ للحياة، لا أصحو منها إلا لأداءِ فرائضي، والعودةِ إلى أحضانها الدافئةِ بانكسارِ مهزومٍ لم يعد يعني له شيءٌ في الوجود، بما في ذلك الطعام، الذي لم يفقد لذته في غيابِك فقط، وإنما انتفت الحاجةُ إليه، فلم أعد أشعرُ بالجوع، وبالكادِ أجبرُ نفسي على وجبةٍ في اليوم كواجبٍ أكثر منه حاجةً!
فربما ما زلتُ أحافظُ على حياتي أملًا في رؤيتِك مرةً أخرى ليس إلا.
المزيد من الأخبار
أنثي
صناعه الثقه
لست جزءًا منك