كتبت منال ربيعي
تحت ضوء مصباح باهت، يجلس ذلك الشخص غريب الأطوار، تتراقص أطراف أصابعه على أطياف الكلمات المبهمة. يحدق في الورقة البيضاء وكأنها مرآة تخفي عنه سرًا دفينًا. يرسم بحروف لا ينتمي إليها، لغةً تتسرب من عروق خياله دون أن يدرك أصولها.
كلما خطّ بالقلم، شعر بأن الحياة تُعيد صياغته، أنفاسه تتلاحق وكأنما الكلمات التي لا يفهمها تهدده أو تستصرخه ليكمل. لكنه فجأة، وفي لحظة يأس، يكسر قلمه بعنف، فتسكن الغرفة، وكأن الزمن توقف لمحاسبته.
لكن يديه، تلك اليدان التي لم تعرف السكون يومًا، ترتجفان، ينظر إلى أظافره، فيبدأ يخدش الورقة بلا هوادة، كأنما يبحث في ذلك البياض عن سجن روحه. الدم يسيل من أطرافه لكنه لا يكترث، وكأن الكتابة تحولت إلى طقوس خلاصه الوحيدة.
“إن لم أفهمها، فهي تفهمني”، يهمس لنفسه، يصرّ على المضي قدمًا، على نقش ذلك الغموض الذي يطارده. كان يعرف أن اللغة ليست مجرد أداة، بل قدرٌ عميق لا ينفك يُطارد الأرواح التي تبحث عن معنى في الفراغ. تتساقط قطرات الدم على الورقة، فتمتزج خطوطه الحادة بآثار جروحه، وكأنما كل خربشة تفتح جرحًا أعمق داخل روحه. لكنه لا يتوقف. يشعر أن الألم هو الثمن الذي يدفعه لفهم هذه اللغة الغامضة، تلك الحروف التي تنبض كأنها قلبٌ يسكن بين السطور.
حين أنهى نزفه على الورقة، نظر إليها بعينيه المرهقتين. لم تكن مجرد خطوط مشوهة أو حروف متناثرة، بل كانت شيئًا أعمق، صورة تعكس صراعه الداخلي، تعكس رغبة الإنسان في التعبير حتى وإن خسر صوته.
في لحظة استسلام قصيرة، ألقى الورقة أرضًا ورفع رأسه إلى السماء، يراقب السقف المتصدع، يتساءل بصوت خافت: “لماذا تُطاردني هذه اللغة؟ هل هي لعنة أم هبة؟”
لم يسمع جوابًا، لكن الرياح تسللت من نافذته المفتوحة لتعبث بالأوراق، فتنهض الورقة الملطخة بالدم، كأنها تأبى أن تُنسى. شعر بشيء غريب يشده للعودة، لأخذ القلم المكسور ومحاولة الإصلاح. أدرك أن الكتابة ليست اختيارًا، بل حاجة، وأن الغموض الذي يطارده هو جزء من مصيره، جزء من قصة لن تكتمل حتى ينتهي هو.
المزيد من الأخبار
وتفاقمت المسافات
سر الزهرة، وغذاء الروح
وتفاقمت المسافات