عبور

Img 20241203 Wa0049

 

 

كتبت الشيماء أحمد عبد اللاه 

 

كنت أقف في ظلال العجوز، عيناه تشع نورًا في الدجى، وكل تنهيدة منه تسحب من روحي، “اختر حياتك الجديدة، أو انتهِ هنا، همس، وكأن صوته يحمل نذير العدم.

 

إن اخترت الحياة، فأيّ حياة ستكون؟ أغمضت عيني ورأيت نفسي في زقاق ضيق بإحدى قرى إيطاليا، بائع كتب قديمة، ذو ملامح مشرقة بنور التجارب، ويدين خشنتين من تقليب صفحات التاريخ، سأحب حينها امرأة تُدعى “كاتي”، عازفة كمان تعيد بناء أنغام العالم من شظايا ماضيها، حياتي ستكون هادئة، مليئة بحكايا الكتب، وغناء الوتر، لن أندم على ذلك قطعًا، سأكون ممتنًا.

 

لكن الموت!!وقفت على الحافة وتسائلت عن طعمه، هل هو برد يتسلل إلى العظام، أم دفء يبتلعك؟ رأيت دقائق حياتي تنساب كقطرات ماء من بين أصابعي، لن أندم أيضًا هنا، بل سأواجهه بابتسامة، كأنني أخبره أنني لست ضحيته، بل رفيقه الأخير.

 

العجوز يراقبني، ويده ممدودة، حياة جديدة، أو الموت؟

أخذت نفسًا عميقًا، وابتسمت له: “اختر لي أنت إذًا”

 

ابتسامتي لم تحرك ساكنًا في وجه العجوز، لكنه نظر إلي نظرة أطالت الزمن من حولي، شعرت أنني أُسحب إلى عوالم موازية، عشت فيها آلاف الحيوات في لحظة واحدة. 

 

رأيت نفسي في مدن لم تطأها قدماي، وقعت في غرام نساء لم أعرفهن، خضت حروبًا لم أكن جزءًا منها. كنت أنا، ولكنني لم أكن أنا!

 

فكرت للحظة: ماذا لو كنت رسامًا في نيويورك؟ سأسكن في ذاك الحي المشهور بروكلين، في شقة صغيرة يغمرها ضوء الشمس كل صباح، سأقضي أيامي أبحث عن الجمال البسيط في الأشياء الصغيرة، أرسم تلك الوجوه التي تراودني في أحلامي، هل سأجد الحب؟ ربما مع فتاة تحب القهوة، وتكتب الشعر في المقاهي المهجورة، ستكون حياتي فوضوية، لكنها مليئة بالشغف.

 

أو ماذا لو كنت شاعرًا في مدينة تطل على البحر الأبيض المتوسط؟ سأعيش على أطراف مدينة تونس الحبيبة، أكتب أشعاري من وحي أمواج البحر، ثم أعزف بالناي في المساء، ستكون حياتي أشبه بحلم طويل، أما عن الحب؟ سأجد امرأة تعيد تشكيل لغتي، تجعل كلماتي ترقص على ألحانها.

 

لكن الموت ظل يلوح في الأفق، بسؤالٍ بلا إجابة، كيف ستكون لحظاتي الأخيرة؟ هل سأشعر بالندم على ما تركته؟ أم سأشعر بالرضا لأنني عشت بما يكفي لأترك أثرًا؟ فكرت في صوت الرياح وهي تهمس بين الأشجار، في قهوتي في الصباح، في ابتسامة طفل صغير… 

 

هل يمكن أن تختزل الحياة في هذه الأشياء الصغيرة؟

 

مد العجوز يده أكثر، وقال: “اختر الآن؛ لأن الزمن لن ينتظر.”

 

قلت بهدوء: “اختر لي، ليس لأنني عاجز عن الاختيار؛ بل لأنني أثق بأنك تعرف الوجهة التي أحتاجها.”

 

ابتسم العجوز أخيرًا، لكن ابتسامته لم تكن إجابة، شعرت وكأنني أُسحب إلى نور أبيض، خالٍ من كل الأصوات،عندما فتحت عينيّ، كنت أقف على جسر طويل، تحتي نهر يتدفق بسرعة هائلة.

 

نظرت إلى النهر وقلت لنفسي: “ربما الحياة والموت وجهان لعملة واحدة، وما عبورنا سوى اختيار مستمر بينهما.”

 

ثم مضيت…..

عن المؤلف