بقلم الدكتور: أحمد كمال
قد تمرض الأيام في القرية، لكن الخميس يظل نضرًا، رائحة التقلية، دخان الكانون والفرن، نمسحُ في أمهاتنا كالقطط كي يُدسِسْن لنا بعضَ اللحمِ في رغيفٍ ساخن، يظل الأربعاء في القرية من يتامى الأيام، تدفعنا الأمهات كي نشتريَ الخبزَ من المخبز الآلي، تصوم الأفران البلدي في ذلك اليوم، والكوانين تنكمش على نفسها، لا نار ولا خبيز، سيد شخليلة دائمُ العراكِ مع أمِه في ذلك اليوم، سيد يكره المخبزَ الآلي، يقول لي دومًا: إن صاحب المخبز يضعُ مكانَ قلبِه رغيفًا متفحمًا، يستقوي بالأرغفة على الناس، سيد رجع ذلك اليوم بخفي حنين، ارتفع صوتُ أمه، اتهمته بالخيبة، ألم تأت بالعيش يا خايب، يا خيبتي الكبيرة، أرادت أمه الذهاب إلى المخبز، ترجاها سيد بألا تذهب، قبَّل قدميها، بلاش يا أمي، لمحني من بعيد، واد يا أحمد، هات خمسة أرغفة بسرعة وسأحكي لك خمس حكايات، سيد ضرير الكتابة فصيح الحكاية، أحضرت له الخبز مسرعًا، مع إلحاح سيد جلست أمه تبكي على العتبة، حملت خمسة أرغفة أخرى وذهبت له وقت الغداء، عرفت الأمر، عم منصور صاحب المخبز دفعه في صدره لاعتراضه على الطابور، لم يتحمل سيد، أمسك حجرًا وشج به رأس منصور وفر هاربًا، جلست معه على سطح البيت، أحضرت لنا أمه ثلاثة أرغفة، وجبنة قديمة وثلاث بصلات، وقطعتين من اليوسفي المخلل، قلت لسيد يومها: اليوم جبنة وغدًا نتغدى لحمة في فرح عمك جاسر، سكت سيد قليلاً ثم قال: اغمض عينك وتخيل أن الجبنة لحمة، قلت بسذاجة: لكنها جبنة قديمة، قال سيد: طالما تفكر ببطنك فلن تتعلم الحكاية، سيد يصر على ألا يذهب إلى بعض الأفراح، قال لي يومها: بعضهم يقول علينا إننا أحباب الله، ثم إذا دخلنا إلى الغداء قذفونا بعيدًا، الانتظار وحش، أن تشعر أنك محتاج ذلك أقسى الشقاء، ثم إنهم يضعون لنا بقية الطعام يا ولد، لن أذهب إلى أي فرح، قلت له: ليس كل الأفراح كذلك، قال لي: قلت لك: أن تشعر أنك محتاج ذلك أقسى الشقاء، لم أنتبه إلى أن أمه تسمعنا، بكت أمه كثيرًا، كانت تدعو لسيد أن يرزقه من وسعه، حين نزلت لتصنع لنا كوبًا من الشاي نتقاسمه، قلت له: أمك تبكي على الدوام يا سيد، أسند سيد رأسه على الجدار وقال: كل الأمهات كذلك، إنهن في مشقة على الدوام، مساكين يا ولد، الناس تعيش بقلبٍ داخلي، والأمهات تهرول دومًا وراء قلوبها الخارجية، تنجب من هنا فيسقط قلبها، تخاف دومًا، تخاف أن يضيع قلبها في دنيا النسيان، دائما ما تغزل بالليل البهجة لأبنائها كي تستجديهم ليبقوا معها، مساكين الأمهات يا ولد، الناس ساكنة، وهن لا يتوقفن عن الهرولة، أنت غريب يا سيد، أسألك عن بكاء فاطنة، فتُسمعني حديثا لا أفهمه، لم يعقب سيد وقال: الرجال يا ولد خلقت عيونهم من الترع، الرجل يبكي بقلبه، يموت حين يسقط دمعة، يموت كمدًا إن أكثر البكاء، لكن الأمهات عيونهن من البحار، إن فرحت بكت، وإن اغتمت بكت، وإن سعت بكت، وإن سكنت بكت، وإن أنجبت فلن تكف عن البكاء، الأمهات تسكنهن الدمعة، ويقتلهن الجفاء، في حصة الرسم، تلصصت على سيد، رسم أمه، أسقط من عينها دمعة، جعلها على الورق بحيرة كبيرة، ووسط البحيرة يسبح سيد الصغير، نهشتني التفاصيل، صرخت لأفهم، قال لي يومها: حين تتعلم الحكاية ستفهم، صفع سيد الأيام وصفعته، طعن الشقاء فأرداه، وسعى ودعًا فأغناه الله، ألبس أمه من الثياب أجملها رغم التجاعيد التي زحفت على جبينها، أسقطت دمعة، سماها سيد دمعة الخير، قال لي يومها: دمعة فرح يا ولد من أمك تجعلك تسبح في الخير دومًا، ذات يوم سرقت الشمس عين أمه اليسرى لترى بها الدنيا، وتركت لها اليمني، عند الطبيب صرخ سيد فجأة: خذ ما تريد يا دكتور لكن لترجع عين أمي، خذ عيني، بكت أمه بعينها اليمني، احتضنها سيد، قبض على دمعة أمه، تنحي جانبًا، قبَّل دمعتها، سكن سيد تحت قدميها، يخدمها بعينيه، كل أربعاء يهرول كي يأتي بالخبز، كان يُسمِّي الأربعاء أربعاء الدمعة، فكثيرًا ما بكت أمه في ذلك اليوم، أستجديه كي يحكي لي حكاية، قال لي وهو يرسم أمه: تلصص على الشمس، أرجع لي عين أمي التي سرقتها وسأحكي لك ما شئت، تلصصت على الشمس، خافت واندست بين الغيوم، ولم تطلع إلا بموت أم سيد يوم الأربعاء، في كل أربعاء يندس سيد في البيت، يخاصم الدنيا، ويدفن وجهه في شال والدته، يشهق من البكاء، حتى جاءته في المنام، قالت له: لا تبكِ يا سيد، ولا تتعرض للشمس، كلُ أيامِ اللهِ خيرٌ يا ولدي، واجعل صديقك إن تعلم الحكاية يكتب عن الأربعاء، فيتامى الأيام أولى بالونس، اجعله يخرج الأربعاء من حزنه، أخرجوه من الهامش، فيكفيه بؤسًا أن الأيام قد سرقت ميراثه.
المزيد
قصص وحكايات: “الهرم الأول في التاريخ”
قصص وحكايات “الكنز الذي بداخلك”
محمد خطاب يكتب … هُدم البيت .. وبقي الباب مفتوحاً