كتبت منال ربيعي
كنتُ أقفُ أمامَ المرآةِ، أحدِّقُ في انعكاسي كأنني أراهُ للمرَّةِ الأولى. في عينيّ ارتعاشةُ سؤالٍ قديم: كم مرَّةً قُطِّعت روحي لتناسبَ سُرُرَ الآخرين؟ كم مرَّةً مُدِّدتُ، شدُّوني، اقتطعوا زوائدَ أحلامي، وبرَّروا فعلتهم باسم الحبِّ، العُرفِ، الواجب؟
بروكرُست، ذاك السفَّاحُ اليونانيُّ، لم يكنْ إلا انعكاسًا لحقيقةٍ نحياها كلَّ يوم. لم نعدْ بحاجةٍ إلى سريره الحديديّ، فقد استعارَ المجتمعُ أدواتهِ بمهارةٍ أشدَّ حذقًا وأقلَّ وضوحًا. لم يعد التقطيعُ ماديًّا، بل صارَ نفسيًّا، معنويًّا، يُمارَسُ تحتَ أسماءٍ مخادعة: “المثالية”، “التربية الجيدة”، “التأقلم”، “النجاح”.
كم مرةً همستْ لي أمِّي: “كوني كما يريدون، الحياةُ أسهلُ هكذا.” كم مرةً قيلَ لي: “أنتِ ذكيَّةٌ، لكن لا تجعلي الناسَ يشعرونَ بذلك، الغرورُ مُنفِّر.” أو: “الحياةُ ليست كما تتخيَّلين، تكيَّفي.” كانوا يريدونَ لي سريرًا بمقاساتهم، إنْ زادتني الحياةُ طموحًا قصُّوه، وإنْ كنتُ أقلَّ حدَّةً مدُّوني حتى كدتُ أتمزَّق.
لكنِّي تعبتُ.
تعبتُ من التشكُّلِ وفقَ توقُّعاتٍ لا تخصُّني، من الالتواءِ كي أنسجمَ مع مقاييسَ ضيِّقةٍ كأنَّها أُعدَّتْ لخنقِ مَنْ يشذُّ عنها. ماذا لو لم أشأ أن أكونَ مثاليةً في نظرهم؟ ماذا لو كنتُ أريدُ أن أكونَ فقط… أنا؟
نظرتُ إلى انعكاسي مرَّةً أخرى. أيُّ شيءٍ في وجهي لا يشبهني؟ أيُّ قسماتٍ نُحِتتْ من أجلِ الآخرين؟ سأكسرُ هذا السرير، سأخرجُ من هذه الغرفة الضيِّقةِ نحو فضاءٍ لا يُقاسُ بالمقاييسِ ذاتِها. سأتعثرُ، قد أفشلُ، قد أخاف، لكنَّني على الأقلِّ لن أكونَ ظلًّا باهتًا لشخصٍ آخر، لشكلٍ آخر، لصوتٍ لم يخرجْ من حلقي.
بروكرُستَ كانَ قويًّا، لكنَّهُ لم يكنْ أقوى منَ العابرينَ الذينَ رفضوا سُرُرَهُ، الذينَ أدركوا أنَّ اكتمالَ الإنسانِ ليسَ في مطابقَتِهِ لمعيارٍ أحمق، بل في امتلائِهِ بذاتِهِ، كيفما كانتْ.
أدرتُ ظهري للمرآة، وخرجت.
المزيد من الأخبار
عزة النفس أولاً
جميعنا أشرار!
نعمة العافية