كتبت: خولةُ الأسدي
أَتَعرِفُ تلكَ الفتاةَ التي تُعاني من الأرقِ المُزمنِ؟ والتي حينَ يزُورُها النَّومُ تكونُ زياراتُهُ قَلِقةً كأنَّهُ على موعدٍ مُهمٍّ يخشى التأخُّرَ عليهِ؟
أَتَعرِفُ أنَّها هيَ ذاتُها التي تغرَقُ في بَحارِهِ كجثَّةٍ لا حياةَ فيها؛ حينما يُبسطُ الحُزنُ على أراضي فؤادِها؟
وهكذا، وجدتُني بعدكَ، برأسٍ مُثقَلٍ بعدمِ استيعابِ هذا الغيابِ، وعينينِ تُجاهدانِ لرفعِ ستائرهِما المُتورِّمةِ بفعلِ ماءِ القهرِ الذي فاضَ من محيطاتِ الوجعِ في الرُّوحِ، لِتتَشرَّبهُ وسادتي، وتعملانِ هما كشرطيِّ مرورٍ يُحاولُ تنظيمَ التدفُّقِ الذي كانَ أكثرَ من زحامِ الظَّهيرةِ في قلبِ العاصمةِ. وبعدَ عملِهِما الشاقِّ والمُضني، وجدتُهُما تُطالِبانِ باستراحةٍ، لا اعتدتُها أنا، ولا سبقَ وطالباني بها. فحاولتُ تجاهُلَ هذا الطلبِ الغريبِ، ولكني في النهايةِ وجدتُني أستسلمُ دونَ شعورٍ، وأغفو مُتكوِّرةً على ألمي، لِأنهضَ بعدَ دقائقٍ بهلَعٍ من يخشى فواتَ موعدِ الصَّلاةِ، لأجدَ نفسي وحيدةً إلَّا من وجعي.
اتَّلفَتُّ حولي، فأرى كلَّ زوايا حجرتي تبكي غيابكَ بصمتٍ، فأنظرُ إلى بابي الموصَدِ، عسى أن أجدهُ شِبهَ مفتوحٍ كدليلٍ على تَسلُّلِكَ في غفوتي كما اعتدتَ أن تفعل، ولكني أراهُ كما هو، فيَعصِفُ الحُزنُ، وتَرعَدُ الآهاتُ التي ضاقتْ بحرقتها جنباتُ صدري، ويَسقُطُ المطرُ، فتَهيجُ رياحُ الذكرياتِ، وتَتوالَدُ التَّساؤلاتُ المؤلمةُ بعلاماتِ استفهامها الحادَّةِ التي تَنتشِرُ في كياني، فأشعرُ بالتَّشَظِّي تحتَ وقعِ شفراتها الصَّارخةِ بعدمِ تَقَبُّلِ الحقيقةِ:
مَن لَكِ الآنَ بعده؟
مَن سيتفقَّدُكِ بينَ دقيقةٍ وأُخرى بفضولٍ مُحبٍّ؟
مَن سيحتضنُكِ تلكَ الأحضانَ الدافئةَ بصدقِ حُبٍّ مانِحِها؟
مَن سيُردِّدُ على مَسامِعِكِ كلماتِ الحُبِّ العَميقِ، وهو يَتساءلُ بكلِّ ما يَعرِفُهُ من قَلقٍ إن كنتِ تُحبِّينَهُ كما يُحبُّكِ، ولن تترُكِيهِ يومًا؟
مَن سيندَسُّ جِوارَكِ ليَحتضِنَكُما الدِّثارَ المُشفِقَ عليكِ من حُبِّهِ الذي لم يَسمَحْ لكِ بنَومٍ هانِئٍ إلَّا فيما نَدَر؟
ولِمَن سَتحكِينَ حِكاياتِكِ التافِهةَ التي تنتهي دائمًا بعِناقٍ طَويلٍ، طافِحٍ بالحُبِّ، ومُرتَعِشًا من رِياحِ الواقِعِ التي حاوَلتُما تجاهُلَها كثيرًا، والتظاهر بأن العمر بأكملهِ لكما، وأن لا فراقٌ فعليٌ آتٍ؟
فكانتْ كلُّ أوقاتِكُما عبارةً عن سَيلٍ من المَشاعِرِ المُتدفِّقةِ التي كنتُما تُحاوِلانِ أن تَصنَعا من هديرِها ضَوضاءً أعلى من ضَوضاءِ الحقيقةِ القاسيةِ، لِتَستَسلِما في نِهايةِ كلِّ مُحاوَلةٍ وأنتُما تُخطِّطانِ لطَبيعةِ العَلاقةِ مُستَقبلًا، بعَجْزِ مَن يُدرِكُ أنَّ الفِراقَ كانَ قَدَريًّا كالموتِ، ولا مَهرَبَ منه.
ولكنَّهُ حينَ أتى، أتى بَغتةً كفَجيعةٍ، أتى جارِحًا كطَعنةٍ، أتى مُوجِعًا، مُؤلِمًا كوفاةِ عزيزٍ على حينِ غَرَّة!
ولكنَّهُ حينَ أتى، أتى بطريقةٍ لم نُخطِّطْ لها، ولا كُنَّا على استِعدادٍ لها ولو خَيالًا، فشلَّتِ الصَّدمةُ إدراكَنا، وسَقَطتُ تحتَ وطأتِها نائِحةً، فيما تَماسَكتَ أنتَ، وابتلَعتَ حُزنَكَ والدُّموعَ، مُكتَفيًا بعِناقٍ كانَ أشبَهَ بطَلَبِ النَّجدةِ.
وحين ذهبتَ لم تَلتَفِتْ، وولَّيتَ مُسرعًا، فرأيتُ كُلَّ خُطَطِنا للمُستَقبَلِ تَتبَخَّرُ معَ اختِفاءِ وَقْعِ خُطواتِكَ، وشَعرتُ أنَّكَ أَقصَيتَني في حُجرةٍ مُظلِمةٍ من فُؤادِكَ، أنا، وحُبُّنا العَظيمُ، وكُلُّ ذِكرياتِنا ومَخاوِفُ قلبَينا.
فعرَفتُ أنَّ الوَجَعَ هوَ الوَجهُ الآخَرُ للحُبِّ في كُلِّ عَلاقاتِي، وهمَستُ بها للمَرَّةِ الأخيرةِ:
ألَم أُخبِرْكَ أنَّ قَلبي كانَ يَتَوقَّعُ ذلك، وأَنِّي أَتَمَنَّى أن يَكونَ كاذِبًا؛ ولِذا شارَكتُكَ تَوَجُّساتِهِ لِتُساعِدَني على إثباتِ خَطأِها؟
ألَم أُخبِرْكَ؟
المزيد من الأخبار
إلى فيروز نهاد حداد
الوقت لا يشفي الجراح
الاختلاف والتغيرات