كتبت: سلسبيل حسين
قَتَلَتْنِي قِلَّةُ اْلِاهْتِمَامِ، وَأَنَا فَتَاةٌ تَتَنَقَّلُ بَيْنَ تَفَاصِيلِ حَيَاتِهَا كَالسَّفِينَةِ الَّتِي تَحْمِلُهَا عَلَى جَنَاحَيْهَا. فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، كُنتُ أَغْرَقُ أَكْثَرَ فِي ذَاكَ اْلْمُحِيطِ مِنَ اْلَعَاطِفَةِ وَالْأَحْلَامِ، وَأَتَوَقَّعُ مِنْ كُلِّ خُطْوَةٍ أَنْ تَكُونَ مُبْنَاةً عَلَى اْلْحُبِّ وَالِاهْتِمَامِ. كُنتُ أَظُنُّ أَنَّ لِلْحُبِّ اْلَقُدْرَةَ عَلَى تَغْيِيرِ اْلْعَالَمِ، أَنْ اْلِاهْتِمَامِ قَادِرٌ عَلَى صُنْعِ اْلْمُعْجِزَاتِ. كُنتُ أَظُنُّ أَنَّ اْلْعُيُونَ الَّتِي تَرَاقِبُنِي بِعِنَايَةٍ تَحْمِلُ فِي بَرِيقِهَا اْلَعَهْدَ بِالْوَفَاءِ، وَأَنَّ اْلْكَلِمَاتِ الَّتِي تَنْطِقُ بِهَا اَلشِّفَاهُ لَا تُقَالُ إِلَّا مِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ اَلْجُسُورُ بَيْنَ اْلْقُلُوبِ أَقْوَى وَأَثْبَتَ.
وَلَكِنَّ، كَانَ اْلْوَاقِعُ بَعِيدًا عَنْ هَذِهِ اْلْأَحْلَامِ الَّتِي بَنَيْتُهَا فِي قَلْبِي، كَانَ اْلْحَيَاةُ لَا تُعْطِي شَيْئًا مَجَّانِيًّا. حِينَمَا تَلاَشَىٰتْ تِلْكَ اْلْكَلِمَاتُ، عِندَمَا غَابَ اْلِاهْتِمَامُ عَنْ أَوْقَاتِ اْلْاِنْتِظَارِ اَلطَّوِيلَةِ، وَجَدْتُ نَفْسِي ضَائِعَةً فِي بَحْرٍ مِنَ اَذْكِيَارِ، قَلْبِي يَغْرَقُ فِي نَهْرٍ مِنَ اَلْأَلَمِ. أَدْرَكْتُ حِينَئِذٍ أَنَّ اَلْحُبَّ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى اَلْكَلِمَاتِ اَلْجَمِيلَةِ وَالْوَعُودِ اَلْمَعْسُولَةِ؛ بَلْ هُوَ فِعْلٌ يَوْمِيٌّ، هُوَ اْلِاهْتِمَامُ الَّذِي يَتَنَفَّسُهُ اَلْقَلْبُ قَبْلَ اَلْلِّسَانِ؛ لَكِنَّ ذَاكَ اَلِاهْتِمَامِ كَانَ يَتَلَاشَىٰ شَيْئًا فَشَيْئًا، كَمَا تَنْطَفِئُ شَمْعَاتُ اَلْأَمَلِ فِي زَوَايَا اَلدَّارِ اَلْمَظْلِمَةِ.
أَغْرَقُ فِي تَفَاصِيلَ صَغِيرَةٍ، فِي تِلْكَ اَللَّحْظَاتِ الَّتِي اَعْتَقَدْتُ فِيهَا أَنْ اَلْعَالَمَ كُلَّهُ قَدْ تَوَقَّفَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْصِتَ إِلَيَّ، فِي تِلْكَ اَلْوَعُودِ الَّتِي كَانَتْ تَهْمِسُ لِي بِكَلِمَاتِ اَلطُّمَأْنِينَةِ، وَكَأَنَّنِي لَسْتُ وَحْدِي فِي هَذِهِ اْلْحَيَاةِ، وَكَأَنَّ هُنَاكَ مَنْ يُشَارِكُنِي جَمِيعَ أَفْرَاحِي وَأَحْزَانِي؛ لَكِنَّ، لَمْ يَكُنِ اْلْوَاقِعُ كَمَا كُنتُ أَتَصَوَّرُ. بَدَأَتْ تَتَسَرَّبُ إِلَيَّ اَلْمَشَاعِرُ اَلتَّجَافِيَةِ، وَأَصْبَحَ صَوْتِي فِي هَذَا الزَّمَانِ غَرِيبًا، وَكَأَنَّنِي لَا أَسْتَحِقُّ اَلاِسْتِمَاعَ إِلَيْهِ.
كُنتُ أُقَاتِلُ لِلْحِفَاظِ عَلَى ذَاكَ اَلْحُبِّ، أَسْعَىٰ بِكُلِّ مَا أُوتِيتُ مِنْ قُوَّةٍ أَنْ لَا أَفْقِدَهُ؛ حَتَّى وَإِنْ كُنتُ أَشْعُرُ أَنَّنِي أَخْتَنِقُ، حَتَّى وَإِنْ كَانَتْ تَفَاصِيلُهُ أَصْبَحَتْ ثَقِيلَةً عَلَى قَلْبِي. كَيْفَ لِقَلْبٍ أَنْ يَحْتَمِلَ غِيَابَ اَلِاهْتِمَامِ؟ كَيْفَ لِلرُّوحِ أَنْ تَعِيشَ حِينَمَا تُغْرَقُ فِي صَمْتِ اَلْآخَرِينَ؟ كُنتُ أَتَسَاءَلُ، وَكُلَّ يَوْمٍ أَكْتَشِفُ أَنَّ مَا كُنتُ أَحْسَبُهُ حُبًّا، كَانَ فِي اَلْوَاقِعِ مُجَرَّدَ شَبَحٍ، يَخْتَفِي كُلَّمَا اقْتَرَبْتُ مِنْهُ. كَانَ كُلُّ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِاَلاِخْتِفَاءِ تَدْرِيجِيًّا، مِثْلَ سُحُبٍ كَثِيفَةٍ تَغَطِّي اَلسَّمَاءَ، وَتَتْرُكُنِي فِي ظُلْمَةٍ دَامِسَةٍ، لَا أَرَى فِيهَا شَيْئًا سِوَى اَلفَرَاغِ الَّذِي مَلَأَ قَلْبِي.
كُنتُ فِي بَحْرٍ عَمِيقٍ مِنَ اَلتَّسَاؤُلَاتِ، لَا أَجِدُ جَوَابًا لِمَا يَحْدُثُ لِي؛ رُبَّمَا كُنتُ أَظُنُّ أَنَّ اَلْحُبَّ كَفِيلٌ بِإِحْيَاءِ كُلِّ شَيْءٍ، لَكِنَّنِي تَعَلَّمْتُ أَنَّ اَلْحُبَّ بِحَاجَةٍ إِلَى اَلدَّعْمِ، إِلَى اَلْاِعْتِنَاءِ، إِلَى اَلرَّعَايَةِ. اَلْحُبُّ لَا يَكُونُ مُجَرَّدَ مَشَاعِرَ عَابِرَةٍ؛ بَلْ هُوَ اَلْجُهْدُ الَّذِي نَبْذُلُهُ يَوْمِيًّا لِيَبْقَى حَيًّا فِي قُلُوبِنَا. لَمْ أَعُدْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحْتَفِظَ بِذَاكَ اَلْحُبِّ فِي دَاخِلِ قَلْبِي وَحْدِي، لَمْ أَعُدْ قَادِرَةً عَلَى اَلتَّضْحِيَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ وَأَنَا أَرَى اَلاِهْتِمَامَ يَغَادِرُ أَمَامَ عَيْنَيَّ دُونَ أَنْ أُبْدِي مُقَاوَمَةً.
وَفِي لَحْظَةٍ مِنَ اَلْيَقَظَةِ، عِندَمَا أَدْرَكْتُ أَنَّنِي قَدْ فَقَدْتُ نَفْسِي فِي تَفَاصِيلِ اَلْآخَرِينَ، قَرَّرْتُ أَنْ أَتَخَلَّى. نَعَمْ، تَخَلَّيْتُ عَنْ ذَاكَ اَلْحُبِّ الَّذِي لَمْ يَعُدْ وُجُودٌ، تَخَلَّيْتُ عَنْ اَلِاهْتِمَامِ الَّذِي كَانَ يَمُرُّ بِخِفَّةٍ كَمَا لَوْ كَانَ سَرَابًا، تَخَلَّيْتُ عَنْ كُلِّ مَا ظَلَلْتُ أَتَمَسَّكُ بِهِ مُعْتَقِدَةً أَنَّهُ سَيَمْلَأُ فَرَاغًا لَا يُمْلَأُ إِلَّا بِحَقٍّ. لَا شَيْءَ يَسْتَحِقُّ أَنْ أَظَلَّ غَارِقَةً فِيهِ، وَلَا شَيْءَ يَسْتَحِقُّ أَنْ أَظَلَّ أُقَاتِلُ مِنْ أَجْلِهِ إِنْ كَانَ هُوَ نَفْسُهُ لَا يُقَاوِمُ فِي وَجْهِ الرِّيَاحِ.
لَقَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ اَلاْحَيَاةَ لَا تَتَوَقَّفُ لِأَجْلِ أَحَدٍ، وَأَنْهُ عِندَمَا يَغِيبُ اَلاِهْتِمَامُ، يُصْبِحُ كُلُّ شَيْءٍ بِلَا قِيمَةٍ. وَعِندَمَا أَكْتَشِفُ أَنَّنِي أَضَعْتُ سِنِينَ مِنْ حَيَاتِي فِي سَبِيلِ شَيْءٍ كَانَ فِي النِّهَايَةِ زَائِفًا، لَا يَبْقَى لِي إِلَّا أَنْ أَتْرُكَهُ وَرَاءَ ظَهْرِي وَأَمْضِي، لَا لِأَجْلِ نِسْيَانِهِ؛ بَلْ لِأَجْلِ أَنْ أَتَعَلَّمَ كَيْفَ أُحِبُّ نَفْسِي أَكْثَرَ.
المزيد من الأخبار
إلى فيروز نهاد حداد
الوقت لا يشفي الجراح
الاختلاف والتغيرات