كتبت ملاك عاطف
.
*تجري الّرياحُ بِما لا تَشتَهي الّسُفُنُ* هذهِ العبارةُ الوحيدةُ اّلَتي على مقاسِ حالي منذُ جاءني إحساسُ أُمومةِ صداقَتِنا لَيلةَ اليَومِ الأّوَلِ مِنَ الحَرب، ولكِّني قّرَرْتُ أن أكونَ الّسَفينةَ والّريحَ والقُبطان؛ فهُناكَ جَلادةٌ وقُّوةٌ خَفِّيةٌ خلفَ أُنوثَتي لم يعرِفها أحدٌ ولم أكشف عنها قبلَ هذا، لا ترموني بسِهامِ الأنانِّيةِ بالّلَهِ علَيْكُم؛ فإبَرُ الفَراغِ تلسَعُني، وحُّمى القَلَقِ تستَهْدِفُ عروقَ رأسي بالهَلاكِ فَتفجُرُها ويتصاعادُ الّدَمُ بِجُنونٍ، فيتوّرَدُ وجهي بقَباحة، وتُهاجِمُني أشباحٌ معروفةٌ قديماً بالّنسبةِ لي ومجهولةٌ اليوم، وتَلَّهى عّني تَفاصيلي اّلَتي لا تَنتَمي لِسابِقاتِها أصلاً، تلّهى وتحزَنُ وتشتَكي إهمالِيَ غيرِ المقصودِ لها، وأنا أمامَ انزوائها وإعراضِها عّني مكتوفةَ الأيدي، لا أعرِفُ كيفَ أشرَحُ لَها أّنَ الحربَ كضمت حَيَوِّيَتي ونَّسَلَتْ برؤوسِ أظفارِها خُيوطَ شغفي، لا أعرفُ كيفَ أُفهِمُها أّنَ سارةَ لم تعُد سارة وأّني لم أعُدْ أنا، وأّنَ لَحْنَ أغانينا صارَ أنيناً، وحُلوَ كلامِنا صارَ علاماتِ استفهامٍ وتعَّجُب، وما نرنو إلَيْهِ كلتانا هُوَ بقاؤُهُم على قَيْدِ الحياة، زُهدٌ في الآمالِ وفي الّرسائلِ، ونِسيانٌ سلَقنا بهِ الاتصالاتِ الهاتِفِّية، لا أعرِفُ كَيفَ أُراضي مطالِبَها الّطُفولِّيةَ اّلَتي صارت رفاهِّيةً مَخطوفةً بعدَ أن كانَتْ حَّقاً وأولَوِّية.
تَمَّشَيْتُ معَ صِبا ورفيف في أرضِنا قبلَ الغُروب، آخِرُ عنقودِنا المُحّلى بالّرهَفِ والفِطنة، جّرَبتُ أن أرميَ حَمولَةَ قلبي بحُضورِهِما؛ فهُما طِفلَتانِ استيعابُهُما محدودٌ، وعقلُهُما لا يصيبُ تحليلُه، ولَكِّني كُنتُ أنا الّطِفلةَ حينَ سألتُ : أتعرِفُ إحداكُما بِما أشعُر؟
-بالفَراغِ.
التَفَّتُ إلى صِبا وأبصرَ قَلبي بريقَ الوَعْيِ يَلمَعُ في عَيْنَيْها الواسِعَتين: -ما هُوَ الفراغ في رأيك؟
-شيءٌ يُشبِهُ الوِحدة على ما أظُّن.
-وماذا أيضاً؟
لا أعلَمُ لِماذا طلَبتُ مزيداً مِن إجاباتِها وهيَ بالأساسِ تحكي عن شعوري أنا، أَأضَعتُ بوصَلَةَ إحساسي؟!
-تشعُرينَ بالحُزْنِ، والخَوف.
لم أسألها عَنِ الأّوَلِ؛ فالجَوابُ واسِعٌ حّدُهُ بعيدٌ تَماماً عن رُؤيتِها وإن كانت ثاقبة، هُوَ جَوابٌ عَميقٌ مُؤلِمٌ طَويلٌ قد أختصِرُهُ أنا بالّصَمتِ لو كُنتُ مكانَها هَرَباً مِن غُّصةٍ لا تُتَرجِمُها أَّيةُ لُغة!
-وعلى ماذا أنا خائفة؟
سُؤالٌ غبِّيٌ غَريبٌ أطلَقْتُهُ وتمَّنَيْتُ أّلا تلتقِطَهُ مسامِعُها القَوِّيةُ وتعقِلَهُ.
-على سارة.
-وعلى البِلادِ يا صغيرَتي.
وأضَفت: -سارةَ صديقتِيَ المُقّرَبة، كُنتُ أحكي لها ما لا أحكيهِ لأحد، والآنَ لم يبقَ أحد!
-لكِّنَكُما على اِّتصال.
-وهِيَ مُتعبة، والحَربُ هائجةٌ وخّطافة.
-أحضِري دُميةً وسّميها سارة، وكَّلِميها.
قالت رفيف.
-لَكِّنَ الّدُميةَ سارة لن ترُّدَ عَلَيْها.
وأطبقتُ تعّجُبي على ذكائِهِما، وعلى تعاطُفِهِما، وعلى ماهِّيةِ أسئِلَتي، أطبَقْتُهُ على كُّلِ شيءٍ فِّيَ؛ فأنا الّثَلاثةُ كُّلُهُم، أنا الريحُ، وأنا القُبطانُ، وأنا الّسفينةُ، وأنا لِنفسي كُّلُ شيء، وأنا للبِلادِ عاشِقةٌ مُتّيمةٌ تُجرحُ؛ فأنزِف، وأنا لِسارةَ ملاذاً، وأنا صديقةُ الّدُعاءِ، وصاحِبةُ الّلَيالي الّطِوالِ، وأنا ملاكاً حائِماً يحُّفُها بالاهتِمامِ والقُرآنِ والّدُعاء، وأنا لي حبيبةً؛ فَلا يرى ضعفي أحد.
المزيد من الأخبار
صراع
ماشي
بين طيات الزحام