ورقة ب٢٠٠ جنيه

Img 20241125 Wa0062(1)

كتبت منال ربيعي

. لم تفهم بسمة إلى أين يريدها الرجل أن تذهب. لكنها لم تكن تملك خيارًا. كانت يده دافئة، قوية، ومليئة بالثقة، على عكس حياتها التي انهارت تحت وطأة الجوع والخوف والبرد. شعرت بشيء يشبه الأمان وهي تمسك بيده.

 

ركبت السيارة إلى جواره، مترددة ومرتبكة. ظل الرجل صامتًا، بينما السائق يقود بهدوء. لم تكن تعرف وجهتها، ولكنها كانت على استعداد للذهاب بعيدًا عن جحيم أم السعد والرجال الغرباء الذين تملأهم النوايا السيئة.

 

عند وصولهما، دخلت قصرًا كبيرًا تحيط به حدائق واسعة. رأت الخدم يتحركون كالنحل، كلٌ يؤدي دوره دون صخب. كانت تشعر بالغربة، لكن نظرة الرجل الهادئة طمأنتها.

قال لها:

“لا تخافي. ستعملين هنا. أنا أحتاج إلى شخص يساعدني في رعاية أبي المريض. العمل بسيط، وستحصلين على أجر جيد”.

 

ابتسمت بخجل ووافقت. أخذت الخادمة الأخرى التي تعمل بالقصر بيدها، وأدخلتها إلى غرفة دافئة، نظيفة، مليئة بالملابس الجديدة. قالت لها:

“هذه لكِ. ارتديها وتناولي طعامك، ثم ابدئي عملك مع السيد الكبير”.

 

شعرت بسمة وكأنها دخلت عالمًا آخر. ارتدت الملابس النظيفة، وأخذت تتناول الطعام بشهية، ثم وقفت أمام مرآة كبيرة. لم تعرف وجهها في البداية. شعرها المجعد كان يبدو أجمل بعد أن غسلته، وعيناها البنيتان عكستا فرحة لم تعرفها منذ سنوات.

 

 

 

بدأت بسمة عملها مع الرجل المسن الذي كان يجلس على كرسي متحرك. كان ضعيفًا، بالكاد يتحدث، لكن نظراته كانت حانية. بدأ يحكي لها عن حياته حين كان شابًا، وكيف فقد عائلته بسبب الطمع والخيانة. لم تفهم كل تفاصيل القصة، لكنها شعرت بالأسى تجاهه.

 

مع مرور الأيام، أصبحت بسمة جزءًا من هذا المكان. كانت تعامل الرجل الكبير كأنه والدها، وبدأت تشعر بالانتماء إلى القصر. أما الرجل الذي أنقذها، فكان يراقبها من بعيد. كانت عيناه تتحدثان بلغة لا تفهمها، لكنها كانت تحترمه وتهابه.

 

 

 

ذات ليلة، بينما كانت جالسة قرب النهر داخل الحديقة، اقترب الرجل منها وسألها:

“ما الذي يجعلكِ تبتسمين رغم كل ما مررتِ به؟”

 

قالت وهي تنظر إلى النيل:

“ربما لأنني تعلمت من النيل أن أستمر. هو يواجه كل شيء: الجفاف، الفيضانات، لكنه لا يتوقف أبدًا”.

 

ابتسم وقال:

“أنتِ قوية، يا بسمة. وهذا ما جذبني إليك”.

 

شعرت بسمة بالارتباك، لكنها لم تتكلم. لم تكن معتادة على هذه الكلمات.

 

 

 

بعد أشهر، شعرت بسمة أنها لم تعد الفتاة الهاربة من بؤسها. أصبحت تقرأ من مكتبة القصر، وتتعلم مهارات جديدة. كان الرجل الكبير يعاملها كابنته، والرجل الآخر – الذي علمت أن اسمه كريم – أصبح مرشدها في الحياة.

 

ذات يوم، دخل كريم إلى الغرفة وقال لها:

“بسمة، أريدك أن تفكري جيدًا. هناك فرصة أن تذهبي إلى المدرسة لتكملي تعليمك. سأدفع كل التكاليف”.

 

شعرت بسمة بالدموع تملأ عينيها. لم تكن تحلم بهذا أبدًا. تذكرت والدتها التي كانت تحثها دائمًا على التعلم، وقالت بصوت مرتجف:

“أوافق. شكرًا لك”.

 

 

 

بدأت بسمة فصلًا جديدًا من حياتها، حيث التحقت بمدرسة خاصة بالفتيات، وبدأت تستعيد أحلامها التي دفنتها قسوة الحياة. كانت تعود إلى القصر في المساء، تحمل كتبها ودفاترها، وتجد كريم ينتظرها ليسألها عن يومها.

 

كان قلبها ينبض بالحياة من جديد. عرفت أن الله لا ينسى عباده، وأن الصبر والإيمان يفتحان أبواب الفرج، حتى لو طال الانتظار.

 

يتبع…

 

عن المؤلف