كتبت الشيماء أحمد عبد اللاه
جلس عادل في مكتبه الخشبي القديم، يحدق في الأوراق البيضاء التي تنتظر سطورًا تنبض بالحياة، كان كاتبًا متألقًا، تحلق حوله الأضواء، لكنه اختار على مدار خمس سنوات أن تكون كلماته منارة للخير، حاملةً قيمًا عليا ومبادئ سامية.
أعماله كانت مثل نهر صافٍ يروي قلوب قارئيه بالإلهام، لكن هذا العام، كان مختلفًا، دار النشر التي تعاقد معها اشترطت عليه أسلوبًا جديدًا، أكثر إثارة، وأقرب إلى نبض السوق الذي يتوق للفضائح والجرأة المفرطة.
في زاوية الغرفة حيث تتراكم الكتب على الرفوف، كان هناك صوت خفي لكنه حاضر، صوت ناعم مفعم بالثقة كأنما انبثق من صميم عقله.
بدأ يتحدث بلا مقدمات، وكأنه اعتاد هذا الحوار:
“عادل، لقد تأخرت، دار النشر تنتظر.
لماذا هذا العناد؟ لديك الموهبة، لديك القدرة على أن تُبهر الجميع، فقط دع القلم يكتب بحرية.”
توقف عادل للحظة، ثم همس وكأنه يناقش نفسه: “لكن أي حرية تقصد؟ أن أكتب ما يدمر القيم التي عشت لأجلها؟ أن أخون قلبي لأجل حفنة من المال؟”
ضحك الصوت، ضحكة خفيفة أشبه بالسخرية:
” المال مرة أخرى، ألن تكف عن هذه المثالية المزيفة؟ هل تعتقد أن أحدًا يهتم بما تكتب طالما أنك تملأ الصفحات؟ الناس تريد أن ترى الحقيقة، تلك التي يخجل الجميع من الاعتراف بها.
اكتب عن رغباتهم، عن ضعفهم، وستكون نجمًا لا يُعلى عليه.”
أمسك عادل قلمه، لكنه توقف، كانت يده ترتجف، سأل بصوت مرتفع قليلاً، وكأنما يريد أن يواجه هذا الكائن الغريب:
“لكن ماذا عني؟ ماذا عن راحتي؟ هل أستطيع أن أنظر في المرآة بعد أن أكتب مثل هذا؟”
عاد الصوت ليبث سمومه، لكن هذه المرة كان أكثر حدة:
“راحة؟ هل تشعر الآن بالراحة وأنت تغرق في الديون؟ هل تشعر بالرضا وأنت ترى غيرك يسبقك؟ الكتابة ليست عنك، إنها عن جمهورك. أنت مجرد أداة، والغاية تبرر الوسيلة.
ألا تريد لعائلتك حياة أفضل؟”
كانت الكلمات تصيب قلبه، نعم، كان يشعر بالضغط، أسرته بحاجة إلى المزيد، ودار النشر لم تعد تحتمل تأجيله.
لكنه كان يعرف جيدًا أن الانصياع لهذا الصوت يعني شيئًا أكبر من التنازل عن مبادئه؛ كان يعني خسارة نفسه.
في تلك الليلة، وبينما كان الجميع نيامًا، جلس عادل أمام مكتبه مرة أخرى، كتب جملة على الورقة الأولى: “كان بطل القصة يبحث عن ذاته في مرايا مكسورة.” قرأها، ثم مزقها.
انتقل إلى الورقة الثانية، وكتب: “في كل معركة بين النور والظلام، هناك لحظة اختيار واحدة تحدد مصير الروح.” توقف قليلاً، ثم وضع القلم جانبًا.
مع بزوغ الفجر، أغلق عادل دفتره ونهض من مكانه، كان يشعر بشيء لم يعرفه منذ شهور: ألا وهو السلام.
نظر إلى الورقة التي قرر تقديمها، وقال بصوت هادئ لكنه ممتلئ بالقوة:
“قد لا تكون القصة التي يريدها الناشرون، لكنها القصة التي يحتاجها العالم.”
أما الشيطان، فقد بقي صامتًا هذه المرة، يعلم أنه خسر الجولة، لكنه انسحب بابتسامة خفية، وكأنه يخطط للعودة في وقت آخر.
غادر عادل مكتبه بخطوات ثابتة، وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة رضا.
قال لنفسه عند باب الغرفة:
“ربما كتبت اليوم أعظم قصة في حياتي… لكنها ليست على الورق، بل في قلبي.”
المزيد من الأخبار
وتفاقمت المسافات
وتفاقمت المسافات
وتفاقمت المسافات