مجلة ايفرست الادبيةpng
...

مجلة ايفرست

مجلة ايفرست الأدبية

انحناء الحكمة بقلم أمجد حسن الحاج

انحناءة الحكمة

بقلم: د. أمجد حسن الحاج

كأن المسامير انخلعت من جدار الحياة لتقف أمام الشيخ المائل بظهره، كأنها أبناء تجمّعت حول ذاكرة الزمن تستمع لأنين التجارب في صمتٍ يشبه الصلاة. يرفع الشيخ رأسه المثقل بوجع الأيام، يحدّق في وجوههم الحديدية التي لم تمسّها النار بعد، يبتسم وهو يرى في أعينهم انعكاس شغفه القديم حين كان الزمن يطرق صدره بصلابة الحلم. يقول لهم بصوته المبحوح من صدأ السنين: “لن تبقوا صامدين إن لم تتعلموا كيف تنحنون عند العواصف، فالصلب الذي لا ينحني ينكسر، والمنحني الذي يفهم اتجاه الريح ينجو”.

يستند على عصاه المصنوعة من ذاته، كأنها ذاكرة أخرى تحمله حين تخذله قدماه. حوله صغار لم يجربوا الطرق، لم يعرفوا المطرقة، ولم تجرّحهم التجارب، يظنون أن القوة في استقامة الجسد، ولا يعلمون أن العظمة في انحناءة الروح. يقف بينهم كظلّ الحكمة في ضوءٍ خافت، يروي قصص الحديد حين كان جمراً، حين كان وهماً يتشكل في لهب الصبر حتى صار شكلاً للحياة.

تتساقط لحظات الصمت بين أنفاسهم كالمطر، وتتمايل رؤوسهم الصغيرة إجلالاً لتاريخٍ لا يُقرأ في الكتب، بل يُكتب على سطح الجرح. يمدّ الشيخ يده المائلة نحوهم كمن يباركهم بنبض الخبرة، يزرع فيهم يقين البقاء رغم الصدأ، رغم الخذلان، رغم المطرقة التي لا ترحم.

وحين تنتهي الحكاية، يسود السكون، كأن الخشب نفسه أصغى، وكأن الهواء تجمّد احتراماً لتلك الهيبة المنحنية. يمضي الشيخ ببطءٍ نحو الغروب، يترك خلفه جيلاً من المسامير الصغيرة تحمل في رؤوسها بريق الحكمة، وتدرك أخيراً أن الانحناء ليس ضعفاً، بل احتراماً لثقل الحياة.