كتبت منال ربيعي
لم يكن للوطن عنده معنى ثابت، كان يرى نفسه دائم الترحال، يسير في طرقات لا تنتهي، بجناحين من كلمات، يحلّق بين المعاني ويغوص في بحر الأسئلة. كلما عاد إلى بيته، شعر أنه لا يزال مسافراً، غريباً حتى وسط جدرانه، كأن الأرض تحت قدميه صفحة في كتاب لم تكتمل.
كانت دعوات أمه رداءً يلفّه كلما عصفت به الأيام، يذكر همسها عند كل سفر: “حفظك الله يا بني، كن قلباً طيباً حيثما حللت.” أما أبوه، فكان صوت حكمته يرنّ في رأسه: “السفر يختبر الرجال، فلا تكن ريحاً تتبعثر، بل كن جبلاً أينما حللت.”
لكنه لم يكن جبلاً ولا ريحاً، كان طيفاً بينهما.
على دروب الترحال، صادق اثنتي عشرة زهرة، كأنهن شهور السنة التي ترافقه في فصوله المتغيرة. يحكي لهن عن آلامه، فتذبل أوراقهن حزناً، يسقيهن حباً، فتزهرن من جديد. معهن، أدرك أن الحزن والمودة نقيضان متعانقان، لا يعيش أحدهما دون الآخر.
كان يحاول أن يضع قدميه على الأرض، أن يكون جزءاً من هذا العالم، لكنه كان يسبح دوماً في ملكوت آخر، في عالم تصنعه روحه، عالم لا تحدّه الخرائط ولا تقيده الحدود.
في قلبه، عاش رجلان متناقضان: قاضٍ صارم، يزن الأمور بعدل، يخطّ لها حدودها ولا يسمح بالخروج عنها، ودرويش طوّاف، يزهد كل شيء، يأوي إلى ركن أزهاره، يحيا معها للأبد، لا يطالبها بشيء سوى أن تظل تنمو بين يديه.
ظلّ الرجل الطوّاف على حاله، لا هو أقام، ولا هو رحل. لكنه أدرك في النهاية أن السفر الحقيقي لم يكن بين البلاد، بل كان رحلة إلى أعماق نفسه، حيث يتصارع القاضي والدرويش، حيث تزهر الأزهار وتذبل، وحيث يظل دائماً غريباً… حتى عن نفسه.
المزيد من الأخبار
لقاء غير متوقع
جروح
التعلق المرضي وتأثيراته