سارة أسامة النجار
عندما خمدَ وطيسُ الحربِ، وصلتني رسالةٌ من صديقةٍ لم تزرْ أرضي إلا عبر أخبارِ الإبادةِ الجماعية. كانت تُباركُ سلامتي وتسألني عن أجواءِ الاحتفالِ، وتبشرني بأنني سأعودُ إلى بيتي.
نكتةٌ أبكتْ قلبي، كتمتُ دموعي وأطلقتُ ابتسامةً زائفةً على وجهي المليءِ بمساحيقِ الأسى. ذلك الوجعُ الذي صبغَ حياتَنا طوالَ 471 يومًا.
إلى أينَ سأعودُ؟
هل سأعودُ إلى الأنقاضِ والرُّكام؟ بيتُنا، وما يحويه من أثاثٍ وممتلكاتٍ، تحوّلَ إلى فُتات. سأستيقظُ كلَّ صباحٍ أنظرُ بلا نافذةٍ على الفراغِ الذي ابتلعَ حيَّنا. سأتحسَّرُ على ذكرياتي الضائعة، وأقولُ في نفسي: “يا ليتَ، فقط يا ليت، أن أُخرجَ شيئًا واحدًا من أشيائي”. لكن عبثًا؛ فلا شيءَ يخرجُ سوى رائحةِ البارودِ وحجارةٍ مهشَّمة. ما أعثرُ عليهِ ممزَّقٌ بالرّصاص.
كم أحنُّ إلى دُميتي “لؤلؤة”، التي كانتْ تتكئُ في الزّاويةِ اليسرى من سريري لتستمعَ إلى همساتِ قلبي، إلى خيالاتي وأحلامي وأفكاري. جاءتني من الضفةِ الغربيّةِ، متحديةً الحدودَ، لتؤكّدَ لي أن الضفةَ وغزةَ هما بطينا القلب. لؤلؤتي الزرقاءُ، ربما هي الآنَ مبتورةُ القلبِ تحتَ الأنقاض.
لذا، لا عودةَ للبيتِ يا صديقتي. وأما عن أصدقائي، فقد ترددتُ في سؤالهم عن حالهم. كنتُ أظنّ أن التّهاني بالسلامةِ تليقُ بالمقام، لكنها لم تجدْ إلا الردودَ المفجعة:
أستاذي الجامعي قالَ لي:
“واللهِ نحنُ مش بخير. شظيةٌ بجانبِ قلبي، وبنتي أُصيبتْ وبتروا قدمَها. بتقدري تساعديني ألاقي كرسيًّا متحرّكًا علشان جلسات العلاج الطبيعي؟”
لكن الكراسيَّ المتحرّكةَ أصبحتْ سرابًا؛ تدمّرتْ مع المنظومةِ الصحية. الطلبُ أضعافُ العرض، وما وُجدَ منها صار عربةً لنقلِ المياه.
أما المخرجُ الذي رافقَ برنامجي التلفزيوني، فأخبرني:
“شكرًا على رسالتكِ… أنا خسرتُ ابني في هذه الحرب.”
صمتُ الردودِ صاعقٌ. الخوفُ من أن أكونَ أنانيةً بالسؤالِ يعصفُ بي؛ فأنا ما زلتُ على قيدِ الحياة، بينما آلافُ الأرواحِ قد ذابتْ في التراب.
حين كنتُ أخطّطُ للاحتفالِ مع صديقتي بانتهاءِ الحرب، باغتتني برسالة:
“بيوتنا مدمرة.”
غُربةُ أبيها لسنواتٍ، وهو يبني لهم ملاذًا دافئًا، تبخّرتْ مع دخانِ القصف. لذا، لن نعودَ إلى ما كنّا عليهِ سابقًا.
ما حدثَ في السابعِ من أكتوبر كانَ طوفانًا، اقتلعَنا من ذواتِنا، دمّرَ كلَّ شيءٍ، وأحرقَ أحلامَنا. فكم سنةً نحتاجُ لقلوبٍ بلا كوابيس؟ ومتى سيحزمُ الخوفُ حقائبَهُ ويهجرُ أرواحَنا؟
وما زلتُ أترقبُ الردودَ المعلّقة؛ مكالماتٍ بلا أصوات، ورسائلَ صامتة، وغصةً لن تغادرَني حتى أطمئنَّ على من أحبّ.
آهٍ… تلك الطفلةُ ذاتُ السنواتِ الخمس، التي عانقتُها وهي تُذيعُ: “أنا بنتُ الشهيد.” ربما لا تدركُ، أو ربما نحنُ من لا ندرك، لكنها تحملُ بين عينيها حكمةَ الصبرِ والفقدِ والثبات.
أجل، هدأَ شلالُ الدم، لكن بركانَ الأسى لم ينطفئ. سنحاولُ أن نعودَ كطائرِ الفينيق، نبعثُ من رمادِنا، وننسجُ شالَ الفرحِ من خيوطِ صبرِنا. سنُعيدُ بناءَ الأحلامِ، لأننا شعبٌ يعشقُ الحياة.
المزيد من الأخبار
وجع الانتظار ومتاهة الاختيار
الألم
الورقة