أنامل الضوء

Img 20241216 Wa0021

كتبت منال ربيعي 

 

تحت ظل شجرة عجوزة تقف وحيدة على أطراف القرية، كان يجلس ذلك الرجل العجوز، الذي استسلم جسده لضعف السنين، لكن روحه أبت أن تنحني. عيناه مطفأتان، غزا العمى مساحتهما منذ سنوات، لكن في داخل صدره يقبع نور لا ينطفئ.

 

بيدين تخطتا عمرهما، كان يحمل أزميله بصلابة. الأصابع التي غزاها التآكل ما زالت تعرف طريقها فوق الخشب، كأنها تقرأ تضاريسه بعين خفية. يحفر، يقطع، ينحت، ثم يتوقف لحظة، يتحسس ما صنع، كأن يديه تُبصران ما لا يمكن لعيون البشر رؤيته.

 

حين تسأله عن سر إصراره، يضحك بصوت يحمل نغمة الزمن ويقول: “الخشب لا يخونني، يفهم صمتي ويعطي شكواي شكلًا.”

يبدأ يومه قبل شروق الشمس، يستمع لأنغام الطيور كأنها تهمس له بما يجب أن يصنعه اليوم. ملاعق صغيرة كأنها ولدت من نغمة خفية، وأطباق منحوتة كما لو أنها قصائد صامتة تُروى للأجيال.

 

لكن خلف كل قطعة كان هناك ألم مخفي. عندما فقد بصره، كان أقرب الناس إليه يعتقدون أن هذا هو الفصل الأخير في حكاية حياته، لكنه فاجأهم جميعًا، وأصر أن يستمر. لم يكن يرى الخشب بعيونه، بل بذاكرة يديه. كانت الأنامل تحمل ذكريات طفولته، صوته وهو يضحك بين الأشجار، ورائحة المنشار الأولى في دكان أبيه.

 

في إحدى ليالي الشتاء، وقف أمام موقده الصغير، يستمع إلى خشب يحترق ليمنحه الدفء، فتسللت إلى قلبه فكرة. صنع ملاعق من أغصان شجرة الكينا التي سقطت بفعل عاصفة، وقال لنفسه: “حتى الشجرة التي ماتت يمكنها أن تعيش من جديد.”

 

كان العمى صديقه الغريب، ألمه الذي حوله إلى نعمة. لم يكن يحفر على الخشب فقط، بل كان يحفر على جدار الزمن، يترك أثره في عالم يحاول أن ينساه. وفي كل مرة يقدم أحد أبنائه أو أحفاده طبقًا منحوتًا بيديه، كان يشعر بأنه لا يزال حيًا، لا يزال موجودًا، لأن الخشب حمل نبضه الذي لم يُطفأ أبدًا.

 

“العين ترى ولكن الروح تخلق”، كان يرددها وهو يعمل. لم يكن الأعمى في نظرهم، بل كان آخر من يرى الضوء في ظلام العالم.

عن المؤلف