كتبت ملاك عاطف
“الموت ليس نهاية الحكاية، إنّه بدايتها”
أوافقك الرّأيَ تمامًا؛ فقد تغيّر منظوري للحياة كثيرًا حين دخلت السّجن، ذلك المكان الموحش المكتظّ بشتّى أنواع القذارات، ذلك المكان الضّيّق الّذي يشبه عنق زجاجة، تدخلها عنوةً ولا تعرف ما يدور خارجها، ولا تعرفُ طريقَ الخروج منها، ولا طريقةَ كسرها حتّى.
لم أتصوّر يومًا يا عتوم أن أعيشَ ما سردتَهُ على الورق، لقد كانت صدمةً ألقتني على الخطّ الفاصل بين الحياة والموت، بين آخر الّليل وأوّل النّهار، بين ذروة التّماسكِ وقعر الانهيار، بين قمّة الكرامة وقاع الذّل، بين حبّ البقاء وبغضي له هناك، بين كلّ بينٍ على حدود الموتِ والحياة.
لقد جرّبت الشّبحَ، والجوع، والبرد، والمرض، والتّعذيب بكلّ صوره العنيفة القاهرة الموجعة المحطّمة للآمال، وعرفتُ كيف يجبرون الواحد منّا على عبور غاباتِ التّوحّش وصحارى الاكتئاب والقطب الإنسانيّ المتجمّد!
هناك، حين كنت أفترش العفونة، وألتحف الرّوائح النّتنة، وأتشارك الفراش مع القوارض والحشرات، وحينَ كنت أتقيّأ طعامهم الرّديئ الّذي يشبه كلّ شيءٍ قبيحٍ، وينتمي إلى المخلّفات، ولا يشبع الحيوانات حتّى، وليس كمثلِ أيّ طعام، وحين كنت أتوسّد الكوابيس غصبًا عن منامي، وحينَ كنتُ أبكي شوقَ أهلي ورفاقي، وحينَ كنت أتجرّع الهوانَ المرّ الّذي يبصقونه في فمِ روحي دون أن أقدر على الكلام، ودون أن أطئطئَ رأسي أو أنحني لجبروتهم، كنتُ أعودُ إلى برشي وأبكي طويلًا، أبكي حتّى يلتقي النّحيب بخيوط الفجر، ويرتمي النّشيج في حضن زقزقة العصافير، ويفيض الدّمع على ركلات السّجانِ وإهاناته، حينَ كنتُ أقاسي كلّ ذلك وحيدةً خائفةً شريدةً مقهورة، كانت تنسدلُ على وجهي عبارتك كالخمار، تتعلّقُ بأهدابي؛ فتمسح دمعي، وتغطّي شحوبَ شجاعتي، وهالات السّهاد المظلم تحت عينيّ، كنتُ أقرؤُها بصوتِ رباطي ورباطةِ جأشي، وأكرّرُها مئات بل آلاف المرّات على مسامع كياني؛ حتّى يعتادَ ظلام السّجن ويهواه، كنتُ أتلوها كترنيمة صمودٍ، وأرتّلُها بعد قرآن العزاء، “الموت ليس نهاية الحكاية، إنّه بدايتها”.
أتعلمُ بمن كانت تصلُني هذه العبارة؟ بروز الصّغيرة، وبخال بشائر، وبجلّ شهدائنا الأبرار، كنت أسعدُ بها حدّ الطّيران على متنِ معانيها في جوّ الوصال الدّافئ، عشقتُها حدّ إدمانها، حدّ مصادقتها، حدّ تفضيلها على اسمي. هذه العبارة كانت صبري وعزّي في غياهب الحقد والعدوان، كانت تشعرني أنّ موتي إن حصل، سيكونُ ربحي، وبحري، وحبري. سيكونُ ربحي الّذي يشبعني من طفولة روز وأقرانها، وبحري الّذي أسبحُ فيه بمركبِ الفخرِ والاعتزاز بين ضحايانا أوزّعُ عليهم شكرًا جزيلًا واعتذارًا كثيرًا، وحبري الّذي أكتبُ به رواياتٍ عن أهل الجنّة السّعداء الكُرماء؛ فتطالعونها حالَ لحاقكم بنا.
أصبت يا ملك أدب السّجون، الموت ليس نهاية الحكاية، إنّهُ بدايتها المحرقة الّتي تنبئُ عن نهايتها المشرقة في كلّ أقطاب المجرّات وأقطار السّماوات.
المزيد من الأخبار
صراع
ماشي
بين طيات الزحام