مجلة ايفرست الادبيةpng
...

مجلة ايفرست

مجلة ايفرست الأدبية

سيده الخبز والخلود

Img 20241210 Wa0105

كتبت منال ربيعي 

    في حارةٍ نائية تغفو على أطراف المدينة، تقبع دارٌ صغيرة ببابٍ خشبي متآكل، يشهد على عقودٍ مضت من الصبر والعطاء. خلف الباب تعيش امرأة تخطت المائة من عمرها، لكنها تبدو كأنها أقدم وأبقى من الزمن ذاته. وجهها مثل خريطة من النقوش الدقيقة، كل خطٍ فيه يروي قصة حبٍ أو ألم، وكل نظرة من عينيها تحمل حكمةَ قرنٍ مضى.

 

تستيقظ قبل طلوع الفجر، حين يغط العالم في سُباتٍ عميق، لتوقد نار التنور بيدين تشققتا من العمل، لكنهما لم تفقدا دفء الحنان. تعبث النار في الظلام، فتملأ الدار بوهجٍ شبيه بروحها، وتجعل الهواء يعبق برائحة العجين الذي أعدته في الليل، مزجته بالماء والملح وأعطته من قلبها قبل يديها. وحين تخبز الأرغفة، تخرجها ساخنةً طريةً، وكأنها تهب قطعةً من ذاتها لكل من يأخذ منها.

 

في الساعات الأولى من الصباح، يطرق بابها صغار الحي، حفاةً يرتجفون من برد الشتاء، لكنها تستقبلهم بابتسامةٍ دافئة، تعيد إليهم دفء الحياة. توزع عليهم الأرغفة، تنظر في عيونهم، وتسأل عن أحوال أمهاتهم وآبائهم. البعض منهم يهرب بخبزه، والبعض يبقى ليحكي، وكأنها أمٌ للعالم أجمع. لا تمل الإصغاء، ولا تُظهر ضيقًا مهما طال الحديث.

 

بعد أن ينصرف الأطفال، تأخذ كيسًا ثقيلاً من الحبوب، وتخرج إلى ساحة الحي. هناك تنتظرها الطيور، أسرابٌ صغيرة تحلق حولها كأنها تعرف موعدها معها. تنثر الحبوب على الأرض بتأنٍ، وكأنها تبارك كل حبة تسقط من يدها. تقف وسط الساحة، والطيور تحيط بها كأنها حارسةٌ للسلام، تنحني على الأرض لتلتقط الحبوب بسلامٍ يشبه ذلك الذي يسكن عينيها.

 

يقول من يعرفها إن سر شبابها الذي لم يفارقها أبدًا يكمن في عطاءها. فكلما أعطت، غسلت روحها من تعب الحياة، وكلما أطعمَت، ارتوت من نهرٍ خفي لا يجف. يصفها البعض بأنها امرأة من زمن الأنبياء، وأحيانًا يتهامسون بأنها خالدة، لكنهم لا يعرفون أنها ببساطة اختارت أن تعيش بالحب، فصار قلبها ينبض بخلود العطاء.

 

عمرها، كما يراه الناس، مائة عام. لكنها، كما تراها الطيور والأطفال، تمتد كزمنٍ لا يعرف حدودًا، كأنها شجرةٌ زرعت جذورها في أرض الخير، ولا تزال تُثمر، رغم كل ما مر بها من فصول.