الجزء 3
عاشق قهر النساء
الكاتبة صباح عبدالله فتحي
كانت نائمة على الفراش داخل إحدى غرف المصحة العقلية، وجهها محتقنٌ، يتصبب عرقًا، وهي تحرّك رأسها بعنفٍ رافضةً شيئًا غير مرئي، بينما عقلها يسترجع تلك الذكرى التي كانت السبب في فقدانها جزءًا من عقلها.
تذكرت نفسها عندما كانت أسيرة في تلك الغرفة المظلمة الخالية من الأثاث، تجلس منكمشة على الأرض المبتلة، جسدها يرتجف من البرد والخوف. كان صوت خطواته يقترب في الظلام شيئًا في شيئًا، ومع كل خطوة كانت تتراجع أكثر، والدموع تنهمر كالشلال على وجنتيها وهي تصرخ بصوتٍ مرتجفٍ يملؤه الرعب:
_ابعد عني… بالله عليك سيبني…ما تقربش
استيقظت من نومها مفزوعة يرتجف جسدها برعب، وما زالت تلك الذكرى تطاردها. كانت ترى قدميه تقترب، وصوت خطواته يتردد في أذنيها بقوة، فصرخت بأعلى صوتها وهي تراه في خيالها يقترب منها:
_لاااا! ما تقربش! خليك بعيد! إنت عاوز مني إيه؟! ابعد عني يا حيوان! ما تقربش!
قفزت من على الفراش، تهرول في أرجاء الغرفة وهي تتلفت حولها بجنون، ووجنتاها تتصبّبان عرقًا، وشعرها الأسود الطويل يتطاير خلفها مع كل حركة. كانت حالتها العقلية لا تمكّنها من التمييز بين الحقيقة والخيال. ركضت نحو النافذة وهي ما تزال تراه في مخيّلتها يطاردها، ولم تُدرك أنه مجرد وهمٍ في رأسها، وأن الغرفة خالية إلا منها. وفي لحظةٍ فقدت فيها السيطرة على وعيها، ألقت بنفسها من النافذة ظنًّا منها أنها تهرب من ذلك الذي يلاحقها.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
حملت أغراضها كعبء الدنيا الذي يثقل كاهلها، وصعدت إلى تلك الغرفة الصغيرة التي لا يطيق أحد الجلوس فيها للحظة واحدة. تجولت بعينيها الرماديتين في أرجاء المكان، وعيناها تلمعان بدمعةٍ محتجزة تزيدهما رقّة وحزنًا.
رأت الدجاجات تنتشر في كل زاوية، وروثها يغطي الأرض. رفعت كفّيها إلى أنفها من شدّة الرائحة التي لا تُطاق، ولم تحتمل الوقوف أكثر، فتراجعت إلى الخلف دون أن تنتبه إلى القفص الصغير خلفها، فتعثّرت به وسقطت على ظهرها أرضًا، صرخت من شدّة الألم، ولم تكد تمر لحظة حتى حاولت النهوض من جديد.
تألمت وهي تضع يدها برفق على موضع الألم في ظهرها، ودموعها تنهمر بحرق وحسرةٍ على الحالة التي وصلت إليها من فقر وذل بعد موت ابويها وتفرق عائلتها. تمتمت بصوتٍ مبحوحٍ يفعم بالبكاء والحسرى:
_يا رب… أموت بقا، أنا تعبت من كل حاجة… بجد تعبت. يا ريتني كنت مُتّ مع ماما وبابا، على الأقل كنت ارتحت… وما شوفتش العذاب اللي أنا فيه ده.
ظلّت تبكي وهي تضع يديها على فمها لتكتم أنينها حتى غلبها التعب والنعاس، فنامت منكمشة في مكانها، وجسدها يرتجف برعشةٍ خفيفة، كالأطفال الصغار الذين لا يجدون من يحتضنهم في لليلة شتاء قاسية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
تحركت مع ذلك المتعجرف لتدخل البيت الذي هو في الأصل منزلها، ملكٌ لوالديها. وما إن خطت قدمها عتبة المنزل، حتى تملّكها للحظة شعورٌ بالحنين والاشتياق، حاولت عبثًا أن تحارب دموعها التي تجمّعت على جفونها، وهي تتأمل أثاث المنزل الذي لم يتغيّر، وكأن الزمن توقّف عند آخر يومٍ قضته فيه مع عائلتها.
ذكرياتها بدأت تتحرك أمامها كفيلمٍ قديم؛ رأت شوقًا من ذكرياتها تتحرك كطيفٍ وهي تسير علي أطراف قدميها نحو شقيقتها لين التي كانت تجلس على الأرجوحة، مندمجة في قراءة إحدى الروايات الرومانسية، التي لا تمل منها وفي داخلها تتمني من أعماقها أن تعيش أحد تلك القصص وفجأة صرخت شوق في أذنها لتفزع لين وتسقط عن الأرجوحة، بينما كانت شوق تضحك بجنون
نهضت لين غاضبة وركضت خلفها، وبينما كانت شوق تفرّ منها وصوت ضحكاتها يتردد في أركان المنزل لما تنتبه إلى أمهما التي تقدّمت من الخلف تحمل صينية مشروبات باردة، فاصطدمتا بها وسقطت الصينية أرضًا وسط ضحكاتهن المتعالية. صرخت نيلي دون وعي، رافعةً يديها في الهواء لتحذر شوق، وكأنها ما زالت تعيش اللحظة:
_شوق… خدي بالك!
التفت نيل على صوتها، وقد كان منشغلًا بالحديث في الهاتف، ثم نظر حوله في استغراب، حيث كانت تحدّق، قبل أن يوجّه نظره إليها قائلًا بسخرية خفيفة:
_انتي بتنادي على مين؟
انتبهت نيلي لما حولها، لتدرك أن الأطياف اختفت، وأنها كانت غارقة في ماضيها. توتّرت بشدة، ورفعت يدها بسرعة تمسح دمعتها قبل أن تسقط، ثم استعادت السيطرة على عواطفها وشموخها ونظرتها الحادّة، وقالت بصوتٍ متوتر قليلاً:
_لا أبداً، دي كلمات أغنية بحب أتنغّم بيها كده لما أكون زهقانة.
ابتسم نيل بسخرية وقال:
يا بخت الأغنية اللي طلعت على لسانك وبالك…
ثم رفع حاجبيه باستغراب وهو يكمل:
بس هو في أغنية اسمها “شوق خدي بالك”؟
زاغت عيناها، وتوتّرت ملامحها، ولم تعرف ما تقول. اقترب منها بخطواتٍ هادئة، وهمس بالقرب من أذنها بصوتٍ غامضٍ يحمل تهديدًا خفيًاّ:
_أوعي تِستغبيني يا قطة… علشان صدمتي في الآخر بتبقى وحشة أوي.
التفتت إليه، واتّسعت عيناها في دهشةٍ وخوف، لكنّه لم يمنحها الفرصة لتستفسر أو تتراجع، إذ انقضّ عليها كالمجنون، قابضًا على شفتيها بقُبلةٍ عنيفةٍ مفاجئة، وذراعاه تحوطان خصرها بقوةٍ وتملّك.
أما هي، فكرهت تلك اللحظة بكل كيانها، ظلّت تضربه وتقاوم بكل ما تملك من قوة، لكنّه كان كالجبل، مقاومتها كالرياح لما تهز منه شعره.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تبعثرت لوحة الليل بما تحمله من ألمٍ ومتاعب، تعثّر فيها البعض، بينما كان آخرون يخطّطون لخطوتهم القادمة دون مراعاة لما قد يمرّ به غيرهم. ومع أول خيوط الفجر، أشرقت الشمس بأشعتها الذهبية لتعلن عن بداية يومٍ جديد، يحمل في طيّاته الكثير من المفاجآت والصدمات التي تنتظر كلًّا منهم.
بدأ اليوم بظهور قصر عائلة الجوكر، ذلك المبنى الضخم المكوَّن من خمس طوابق، يتميّز بأثاثه الفاخر وغناه الفاحش الذي يَظهر بوضوحٍ في تصميمه الكلاسيكي وجدرانه المنقوشة بماء الذهب. وفي قلب هذا القصر الذي يُشبه لوحةً فنيّة، كان يوجد مكتب الجوكر كبير العائلة.
في الداخل، كان التصميم الكلاسيكي باللون الأسود الطاغي، مزين باللوحات الفاخرة، تنبعث منه أجواء فخمة وهيبة. جلس على الكرسي الجلدي خلف المكتب عشق الجوكر، الحفيد الأكبر للعائلة. يلقب بلقب عشق الجوكر لأنه النسخة الثانيه من جده. ورغم العبوس المرسوم على ملامحه، إلا أن وسامته الرجولية كانت واضحة؛ وجهٌ مستطيل تزيّنه لحية سوداء خفيفة، وبشرةٌ قمحاوية، وعينان سوداوان كسواد الليل تحيط بهما رموش قصيرة وحاجبان كثيفان يزيدان من حدّة نظراته.
كانت نظراته الثاقبة معلّقة على الرجل الواقف أمامه، الذي تتصبّب قطرات العرق على وجنتيه، وملامحه شاحبة، مطأطئ الرأس من شدّة الخوف. تفوه عشق بصوتٍ رجوليٍّ يحمل تهديدًا واضحًا:
«إنت عارف لو طلعت معلوماتك غلط المرة دي كمان، أنا هعمل فيك إيه؟»
رفع الرجل عينيه للحظةٍ والخوف يسري في جسده، ثم خفضهما سريعًا وهو يجيب بتلعثمٍ واحترامٍ شديد:
«أنا متأكد من معلوماتي المرة دي بس…»
تجمّد صوته خوفًا من أن يُكمل، لكن عشق لم يصبر عليه حتى يستجمع شجاعته، فصاح بغضب:
«بس إيه يا زفت؟ أخلّص!»
ابتلع الرجل ريقه في هلعٍ وقال مجبرًا:
«بس زي ما حضرتك عارف يا عشق بيه، أنا ما شوفتهاش قبل كده علشان أتأكد إذا كانت هي ولا لأ.»
ضرب عشق المكتب بيده بعنفٍ وهو يقول بغضبٍ عارم، مما جعل الآخر يرتجف بحركةٍ لا إرادية، وكأنّ هجوم الثور الغاضب بات وشيكًا، فالجميع يعرف عن عشق جوكر أنه سريع الغضب، لا يعرف للسيطرة طريقًا، وفي لحظات ثورانه لا يفرّق بين الحبيب والعدو.
«أمال الصورة اللي معاك دي بتعمل بيها إيه؟!»
أجاب الآخر بسرعةٍ بصوتٍ متقطعٍ مرتجف:
«آسف يا فندم… حضرتك اتفضل، أنا هاخدك على العنوان وبإذن الله تكون هي.»
وقف عشق بغتةً، وتحرك بخطواتٍ متسارعةٍ يغمرها الغضب، رغم ما يبدو عليه من ثباتٍ ظاهري. أسرع الآخر خلفه محاولًا اللحاق به.
غادرا المبنى وصعدا إلى السيارة السوداء الفاخرة التي كانت تنتظرهما بالخارج. جلس عشق في المقعد الخلفي، بينما ركب الآخر بجوار السائق الذي انطلق فورًا حيث أمره الراجل.
ظل الرجل يفرك كفّيه بتوترٍ واضح، والخوف يتملّكه من الداخل، فلو كانت معلوماته هذه المرة خاطئة، فلن يكون مصيره سوى الموت المحتوم على يد عشق الجوكر نفسه






المزيد
شيء يُضاهي التلاقي، ولا شيء يُشبه نظرة الإنسان إلى الإنسان بقلم إيثار الباجوري
الحروب دمار القلوب بقلم مريم الرفاعي
لا يستحق أحد التضحية بقلم سها مراد