كتبت: ملاك عاطف
“من ينكر أن الغربة حياة مستعارة؟”
سؤالٌ قد تكون إجابتي عليه فلسفيّةً ربّما؛ فهي تختلف من الدّاخل تمامًا عمّا هي من الخارج. كلّنا نعلم أنّ حياة الغربة مستعارة، لكن هناك من يخفي هذه الحقيقة في أعماقه ويخبّئ اعترافه بها في زوايا نفسه، ثمّ يتقنّع بعكسها أمام النّاس؛ لأنّه قد ذاق فيها ويلات الهجرة، والشّتات، والوحدة، وعرف كيف يكون ألم البدء من الصّفر تحت عجلة الأيّام السّريعة الّتي تدور بلا شفقةٍ أو رحمة؛ فتدهس إرادته وتصرّ غريزة البقاء أن تجعل لها سبع أرواحٍ؛ كي لا يموت هذا المغترب يأسًا، أو تعبًا، أو وحدة، حتّى وإن عاش على حياة القيد، المهمّ أن لا يموت، أن لا يفنى، أن لا يسمح للظروف أن تعبثَ بعدّاد عمره أو تجرّ إليه أجله.ومنّا من يؤمن بهذه الحقيقة حدّ استعداده للتجرّد من كامل أوجاعه عداها، ويأذن للسانه أن يعتنقها مقولةً أبديّةً يتلفّظ بها كلّما سنحت له فرصةٌ بذلك، ويعيش حياته على أساس أنّها مستعارةٌ فعلًا؛ فيدرّب نفسه على تقبّل أيّ طارئ سفرٍ، أو تخلٍّ، أو رحيل؛ لأنّه على يقينٍ أنّ صلصاله لن يستطيع صبرًا على تنفّس هواء غير هوا بلاده، وأنّ السّكينة الّتي يبحث عنها فؤاده المكروب لا تزهر بغير أرضه، وأنّ قانون الاستعارة لا يقبل التّملّك، وقانون الانتماء الصّادق لا يقبل الغياب.
لا أحد يستطيع أن ينكر أنّ الغربة حياةٌ مستعارة؛ لأنّ من جرّبها أدرك أنّها تشبه الشّعر المستعار في زيفه، وتساقطه، وسرعة تلفه، وبذلك فهو لا يستطيع أن يجعل أصابع التّجاهل في أذنيه حين يعلو صوت أصوله؛ شوقًا وحنينًا إلى تراب الوطن العابق بجنان الأمن والاستقرار، لكنّه حين قرّر أن يحيا هذه الحياة المستعارة كان مجبرًا على ذلك، أو كان مضطرًّا لإسكات صراعات الحقوق الّتي تصرخ في رأسه؛ كي لا تلغى، ولا تحالَ إلى رفاهية. الأوطان غاليةٌ يا غادة، ولولاها لعاش الكلّ حياةً مستعارةً دون أن يشعر بأيّ ضيقٍ، أو حنينٍ، أو تعبٍ، بل دون أن يشعر بذرّة حبٍّ لوطنيّته وقوميّته. أظنّ أنّ من يعيش حياةً مستعارة، ينتظر بفارغ الصّبر أن يعيدها إلى أصحابها، وأن يخرج منها بلا عودةٍ؛ ملتحمًا بحياةٍ كريمةٍ في بلده، لكن ماذا إذا كان العيشُ الكريم أمنيةً يا غادة؟ هل نموت على فراش اشتهائنا لتحقّقها؟ أم نعود لنحشر أنفسنا في دائرة الاستعارة الخانقة؟
المزيد من الأخبار
لقاء غير متوقع
جروح
التعلق المرضي وتأثيراته