سُندس خالد حمّامي
كانَ في مَدينتي شارعاً كاملاً للكُتُب مكتَبة هُنا وأخرى هُناك ومطرٌ وجوٌّ مبتلٌّ بالصَّقيع، أقبلتُ على الطّريق خطوتين فرأيتهُ مليئ بالنّاس والغُرباء، يسرعون في التَّجول، دخلتُ المكتبة كي أقتني كتاباً كانَ لا يوجد الكتاب الذي أريدهُ خرجتُ وتجوّلتُ قليلاً رأيتُ مكتبة لم أدخلها من قبل…ألقيتُ السَّلام لم يردّ أحد، خطوتُ خطوتين كانَت مكتبة مفصّلة لخمسة أجزاء وسقفها عالٍ مكتبٌ على اليمين عليهِ أوراقٌ قديمة مهترِئة وضوءٌ خافت وهدوءٌ تامّ شعرتُ بطرطقةٍ على الخَشبِ خطوتُ خطوتين رأيتُ خيال بآخرِ الممَرّ مشيتُ في الممر المقابل لهُ لماذا لم يرد السلام هل كانَ صوتي خافتاً، خطَيت ولم يكن صوتٌ لأثري على الأرض رفعَت يدي لأخذ الكتاب المقابل للصوت فأنطفَأَت الأضواء في أرجاءِ المكتبة حاولتُ الرَّكض إلى الخارج لكنَّهُ وقفَ أمامي شخصُّ ذو أكتافٍ عريضة وقامة طويلة ملتَّمُ الوَجه لم أتعرّف على تعابير وجههُ، كنتُ أصرخ بصوتٍ مرتفع لا أحد يسمعني كانَ داخل المَكتبة غرفة صغيرة بعدَ ممرّ ضيق وطويل وكانَ بابَها خلف الرّفوفِ أخذَ بيدي إلى هُناك ووضعني على كُرسيّ كانَت الغُرفة غريبة جدرانها من أصفادِ البَيض وأشعلَ لي شمعَة صغيرة وأعطانِي بيدي كتاباً،
قالَ إقرأيه حتّى آتي إليكِ تذكّرت بأنَّ أصفاد البيض تكتم الصّوت على الجدران وأنِّي لو صرخت لن يسمعُني أحد، جلستُ أفكّر كيفَ سأخرُج من هنا حملتُ الكتاب بيدي وكانَ كتابٍ قديم مكتوب بخطّ اليَد قرأت عنوانهُ كان “لن أنساكِ”
اندهشتُ وأنا أنظُر إلى عنوانَهُ، جلستُ على الكُرسيّ وفتحتُ الصّفحةُ الأولى كانَ يكتبُ عليها أكملي القراءة ولا تتوقفي ارتسمَت الدّهشة في عيوني قلبتُ الصفحة وأنا أرتجف قرأتْ انتظريه حتّى يأتي، وضعَتُ الكتاب على الطاولة قرب الشَمعة، وقفتُ منذهلة أدورُ حولَ نفسي لأرى أيّ شيءٍ يخرجُني من هُنا، طرقتُ على الجِدران لكن دونَ جدوى جلستُ على الأرض أبكي وأرتجف كانَ البردُ يخترقُ أضلُعي غفوتُ ولا أعلم كيفَ نمت بهذا الخَوف الذي كانَ يعتريني، بعدَ ساعاتٍ من النومِ والخَوف شعرتُ بأحدٍ يلمسُ جسدي حتّى استيقتُ ورأيتهُ هو الشاب الطويل يغطّي جسدي كي لا أبرَد،
من أنت وماذا تريد مني؟
لا تخافي لا أريد منكِ شيء لكنَّكِ أتيتِ إلى هذه المكتبة ولا أحد يعلم بها ولا يراها إلا أنا وإنَّها مغلقة منذ سنوات كيف رأيتيها؟
كانَت للحورائيات منذُ زمنٍ طويل
وأنا جدَّتي حورائية اكتسبتُ منها طرق رؤية الأماكن التي لا تُرى وأتيت لأقتني كتاباً من هنا لماذا الغُرفة ممتلئة بأصفاد البيض؟
لماذا أدخلتني إلى هُنا؟
لا أريد من أحدٍ رؤيتكِ أنا أعلمُ من أنتِ يا “حَور” كانَ أبي صديقُ جدَّتكِ، أتيتِ إلى هُنا وأنا أعلم بأنَّكِ ستأتين إلى هذا الشارع اليوم أنا أراقبكِ منذ زمن، كنتُ أخاف عليكِ دائماً
نظرَت إليهِ بتعجّب وقالت ما اسمُك؟
أنا “سراب” وقفَتْ “حور” فانجذَبَ إليها وإلى عيطاءِ وجهِها ووقفَ أمامها، هلا أخرجتني من هنا من فضلك؟
ماذا بكِ؟ لماذا تريدين الذهاب؟ ألا تشتاقي إليّ؟
وقفت بينَ يديهِ تبكي، سنينٌ طويلة مرّت على رؤيتك ابتعد عنّي ولا تقترب وأخرجني من هُنا، لماذا عُدت ذهبتَ دونَ أن تخبرُني ولم أعلم من أحدٍ عنك شيء وأوقفتُ حياتي لسنينٍ من أجلك، لم آخذ الكثير من الوقت لأعود إلى نفسي لماذا أتيت في الوقت الذي نسيتك بهِ
لا تبكي يا “حور” فالامور على ما يرام الآن، أنا عدت وأنتِ هُنا معي، نظرَتْ إلى عينيه فأكشفَ عن وجههِ الأسمر وعينيه الخضراوتين، نطقت وهي ترتجف لا أريد أن أراك، ثمَّ أخبأت وجهها بيديها وهي تقول لماذا أتيت إلي يا “سراب” ضمَّها إلى صدرهُ فقالت: أنا متعبة ولن أنساك رغم كل السّنين تركتني وذهبت دون سابق إنذار…سنين وأنا أبحث عنك في كلِّ مكان، كنتُ حولكِ دائماً وإنّي أراكِ منذ يومنا ذاك لكنّي كنتُ مهدَّداً من أبي، أتذكرين رفض زواج أُمكِ من والدي لأنها من غير قرية هدَّدني أن لا أقتربُ منكِ والآن توفي والدي فتحت المكتبة لآخذ الكتاب الذي أعطيتكِ إياه كتبتهُ لكِ في فترتي تلك كنتُ أريد إرساله لمنزلكِ لكنّي لم ألحق وأخبأتكِ داخل هذه الغرفة كي لا يراكِ أهلُ الحيّ، جلست “حور” على الكرسي أريدُ العودة إلى المنزل هلّا فتحت إليّ الباب من فضلك؟
نعم لكن تذكّري أنا عندَ وعدي لكِ سوف آتي غداً وأطلبكِ من والدتكِ هذه المرة لن يقف أمامنا أحد، نظرَت إليه “حور” وهي تقف على باب المَمر بعينيها البنيّتين وقبعتها الصوف البيضاء ومعطفها الورديّ الذي يعكس لونَ وجهها ابتسمت بحزن وخرجَت تبكي في الطّريق المكاتب الكَثيرة، هل هذه حقيقة أم تخيّل هل عدت لجنوني أم هو أتى مجدَّداً، نظرت حولها فلم ترى أحد حولها عادت أدراجها إلى المكتبة وقفت على بابها من الداخل فلم يراها أحد فورَ دخولها لأنها مكتبة مخفية يراها الحورائيات فقط نادَت بصوتها الحَنون “سراب” “سراب” جاء إليها من خلفِ الممرّ،
نظرَت إليه وركضت مسرعة ضمّته وهي تبكي هل هذه حقيقة أم خيال أجبني باللهِ عليك، أجابها وهو يمسّد شعرها بيديه هذه حقيقة يا “حوريتي” أنا هنا لأجلكِ من جديد صدقيني…قبلها من رأسها وأحاطها بيديه وجسده العَنفقة وأخبرها أنَّهُ هذهِ المرة هو هنا من أجلها فقط.
المزيد من الأخبار
سر الزهرة، وغذاء الروح
وتفاقمت المسافات
أنا آتلانتا