سارة أسامة النجار
كتبَ الشاعرُ الفلسطينيُّ محمود درويش قبل ستين عامًا قصيدته الشهيرة “أحنُّ إلى خُبزِ أُمِّي”. خرجت من خلف القضبان كصرخةِ حنينٍ أبديٍّ، ترسمُ علاقتنا بجذورِ الأرضِ وملحِها. لكنها اليومَ تتسللُ إلى قلبي بشكلٍ مختلفٍ تمامًا.
هل غابَ عنه رغيفُ الخبزِ حقًّا؟ هل تجاهلَ نواحَ جوعِ الصغار؟ وهل سمعَ أنينَ الجوعى وهم يتضرعونَ للحصولِ على لقمةِ خبزٍ تُسكتُ صراعَ أمعائهم؟ هل تلصصَ على فرنِ الجيرانِ ليشمَّ شذى الأرغفةِ الساخنة؟ هل صامَ جُمادى الأولَ والآخرَ تلبيةً لأوامرِ الجوعِ الكافر؟ هل جابَ الشوارعَ يبحثُ عن دقيقٍ تالِفٍ ليُحوِّله إلى خبزٍ؟ هل اغتاله تأنيبُ ضميره عندما أجبره صديقه على مضغِ فتاتِ خبزٍ يابسٍ؟ هل حلمَ في منامه بكنزٍ يُخبِّئُ أرغفةَ خبزٍ وأكياسَ دقيقٍ؟ هل انفطرَ قلبُه وهو يختلسُ السمعَ لصلاةِ طفلةٍ تدعو أن يرزقَ أباها بأربعةِ أكياسِ دقيقٍ؟ هل وهل وهل…؟
إذا كانت كلُّ إجاباتِك يا درويش بالنفي، فلا يحقُّ لك أن تُغنِّي للحنينِ إلى الخبز. فنحنُ بغزةَ الوحيدونَ الذينَ نفهمُ معنى “أحنُّ إلى خُبزِ أُمِّي”، فالجوعُ ليس كلمةً نرسمُها على الورق، بل طعنةٌ صامتةٌ في أمعاءِ الصغارِ، وسياطٌ تلهبُ ظهرَ الكبارِ. الجوعُ احتلَّ بطونَنا قسرًا، ونفانا عن أعتابِ الغذاءِ، في حربٍ تُمارَسُ ضدَّنا بشتى الأسلحةِ والوسائلِ.
صرنا نحلمُ بكيسِ دقيقٍ يُعيدُ الحياةَ إلى فرنٍ ميتٍ، لنحتضنَ رغيفًا كما يحتضنُ الغريقُ طوقَ نجاةٍ. وبتنا نبحثُ عن أمنِنا بكيسِ دقيقٍ يكونُ سببًا لأنْ نُبصرَ أرغفةَ الخبزِ ونُقبِّلَها قبلَ أنْ نُخبِّئَها في جوفِنا.
فهل نرى يومًا شمسَ الحريةِ تُشرقُ من فتحةِ فرنٍ صغيرٍ، تحملُ لنا أرغفةً تشبهُ الحلمَ، وتُعيدُ الحياةَ إلى أرضٍ محاصَرةٍ؟
المزيد من الأخبار
صراع
ماشي
بين طيات الزحام