الشيماء أحمد عبد اللاه
يقول دوستويفسكي: “يوجد شيء واحد فقط يروعني، وهو ألا أكون جديرًا بآلامي.”
أقف الآن في غرفة يعمها السكون، إلا من صوت الأجهزة الطبية التي تقيس نبضات متعبة تخبو ببطء. أمامي شابة في مقتبل العمر، كان يُفترض أن تحتفل بأحلامها، أن تملأ الدنيا ضحكًا وبهجة، لكنها الآن تقاوم عاصفة المرض التي اجتثت من حياتها كل ألوانها.
على وجهها شحوب يحكي عن معاناة طويلة، وفي عينيها نظرة لم أستطع تفسيرها: هل هي استسلام؟ أم سلام داخلي أعمق مما أفهم؟
في الزاوية الأخرى من الغرفة، جلست أمها، تحاول أن تبدو قوية، لكن نظراتها كانت تقول غير ذلك.
كانت تبكي بصمت، وعيناها تشاهدان شيئًا واحدًا: ابنتها التي كانت كالزهرة، تذبل شيئًا فشيئًا أمامها، كم تمنت لو تستطيع أخذ هذا الألم عنها، لو يُختصر بها كل وجع الدنيا لتترك لابنتها فسحة حياة أخرى.
قالت الفتاة بصوت خافت، كأنه يأتي من أعماق بعيدة: “أمي، هل تعلمين؟ أنا لم أعد خائفة.
كل يوم أشعر أنني أقترب من شيء جميل… شيء لن يكون فيه ألم.”
الأم التي انفجر قلبها مع كلماتها، ردت بصوت مختنق: “شيء جميل؟ أي جمال في أن أفقدكِ؟ كيف لي أن أعيش إذا رحلتِ؟”
ابتسمت الفتاة بهدوء لا يليق بمن يواجه نهايته، وقالت: “الحياة ليست بما نعيش يا أمي، بل بما نترك، وأنا أشعر أنني سأترك حبكِ لي طاقة تعينكِ على الاستمرار، لن أكون مجرد ذكرى، سأكون جزءًا منكِ، في كل خطوة تخطينها.”
ازدادت دموع الأم، لكنها لم تجب شعرت أنها في مواجهة شيء أكبر من أن تفهمه، شيء كأنه خارج عن حدود البشر.
وفي تلك الليلة، أغلقت الفتاة عينيها، ولم تفتحهما مرة أخرى.
في صباح اليوم التالي، كان السرير خاليًا، والغرفة ساكنة. الأم، التي بدت كمن فقد روحه، دخلت إلى غرفة ابنتها في المنزل على مكتب صغير، وجدت صندوقًا خشبيًا مزينًا، داخله رسالة تركتها ابنتها بخط يدها الهزيل:
“أمي، حين تقرئين هذه الرسالة، سأكون في مكان أجمل، لا تبكي كثيرًا، فكل دمعة منكِ تؤلمني أكثر مما فعل المرض.
أردت أن أقول لكِ شيئًا واحدًا: كنتِ عالمي كله. حبكِ جعلني أعيش أكثر مما توقعت.
لكنني أطلب منكِ طلبًا أخيرًا… عندما تزهر شجرة الياسمين في حديقتنا، اقطفي زهرة واحدة، وضعيها على قبري الياسمين لا يموت يا أمي، هو فقط يزهر في مكان آخر.”
مرت أشهر، وكان الألم ثقيلًا لا يُحتمل.
لكن في ربيع ذلك العام، أزهرت شجرة الياسمين لأول مرة منذ سنوات، وقفت الأم أمامها، تقطف زهرة بيضاء، وتتمتم بصوت متحشرج: “ربما لم ترحلي حقًا… ربما صرتِ ياسمينة في مكان آخر.”
وضعت الزهرة على قبر ابنتها، وهمست: “سأكون بخير… لأنكِ كنتِ كل الخير.
” ثم غادرت بخطوات ثابتة، لأول مرة منذ رحيلها، وهي تشعر أن شيئًا ما في الهواء يُخبرها أن ابنتها ما زالت قريبة، كأن الياسمين يهمس: “أنا هنا، في كل زهرة، في كل نسمة عطر.”
المزيد من الأخبار
صراع
ماشي
بين طيات الزحام