حِكْمَةُ العَجُوزِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَة

Img 20241225 Wa0041

 

الكاتبة:- سلسبيل حسين 

بعدَ يومٍ مِلْءٍ بالخِيبَةِ والحُزْنِ، خَرَجْتُ فِي مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ، لا أَعْرِفُ أَيْنَ أَذْهَبُ. مَشَيْتُ فِي شَوَارِعِ المَدِينَةِ البَارِدَةِ، تَكَادُ قَدَمَايَ تَخُطَّانِ طَرِيقًا بِلَا هَدَفٍ. كَانَتِ العَتْمَةُ تَلْتَهِمُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَنَا أَسِيرُ بِلَا وَجْهٍ، بِلَا هَدَفٍ، كَأَنَّنِي شَبَحٌ ضَائِعٌ بَيْنَ أَزِقَّةِ الزَّمَانِ. فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، رَأَيْتُ رَجُلًا مَسِنًّا جَالِسًا عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، جَلَسْتُ بِجَانِبِهِ فِي صَمْتٍ ثَقِيلٍ، وَالْهَمَسَاتُ المُتَعَبَةُ تَخْرُجُ مِنْ صَدْرِي. أَرَدْتُ أَنْ أَبْكِي، لَكِنْ لَا دُمُوعَ كَانَتْ فِي عَيْنَيَّ، فَقَطْ آلامٌ مُتَرَاكِمَةٌ، كَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي دَاخِلِي قَدْ جَفَّ.

 

نَظَرَ إِلَيَّ العَجُوزُ بِنَظْرَةٍ عَمِيقَةٍ، ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ رَقِيقٍ وَلَكِنَّهُ مَلِيءٌ بِالحِكْمَةِ: “مَا بِكَ يَا وَلَدِي؟” ارْتَجَفَتْ يَدَيَّ وَأَنَا أُجِيبُهُ، وَكَأَنَّ الكَلِمَاتِ عَجَزَتْ عَنْ الخُرُوجِ، فَقُلْتُ: “كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْمَرْءِ أَنْ يُكْتِبَ بُكَاءَهُ؟ كَيْفَ يُعَبِّرُ عَنْ هَذَا الوَجَعِ الَّذِي لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، هَذَا الأَلَمِ الَّذِي يُمَزِّقُ رُوحِي وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُنْطِقَ بِهِ؟”

 

ابْتَسَمَ العَجُوزُ ابْتِسَامَةً مَلِيءَتْهَا الحُزْنُ، لَكِنَّهُ قَالَ بِصَوْتٍ هَادِئٍ، وَلَكِنَّهُ عَمِيقٌ كَالنَّهْرِ الجَارِفِ: “يَا بُنَيَّ، البُكَاءُ لَا يُكْتَبُ بِالكَلِمَاتِ وَلَا تُعَبِّرُ عَنْهُ العِبَارَاتُ. البُكَاءُ هُوَ طُوفَانٌ دَاخِلِيٌّ، هُوَ تِلْكَ اللَّحْظَةِ الَّتِي يَلْتَقِي فِيهَا القَلْبُ مَعَ الهَاوِيَةِ، حِينَ يَتَسَاقَطُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ دَاخِلِكَ وَلَا يَبْقَى سِوَاكَ، لَكِنْ لَا تَعْتَقِدْ أَنَّ الدُّموعَ هِيَ المِقْيَاسُ. لَا، بَلْ إِنَّ البُكَاءَ الحَقِيقِيَّ هُوَ أَنْ تَشْعُرَ أَنَّ رُوحَكَ قَدْ تَحَطَّمَتْ، أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِيكَ قَدْ تَفَتَّتَ، وَمَعَ ذَلِكَ، تَجِدُ فِي نَفْسِكَ القُدْرَةَ عَلَى النُّهُوضِ مِنْ جَدِيدٍ. الكِتَابَةُ تَأْتِي بَعْدَ البُكَاءِ، حِينَ يَهدَأُ العَاصِفُ قَلِيلًا، وَتَبْدَأُ أَنَامِلُ اليَدِ فِي تَقَبُّلِ مَا لَا يُمْكِنُ احْتَمَالُهُ، لِتُكْتِبَ عَنْ الوَجَعِ الَّذِي تَحَوَّلَ إِلَى صَمْتٍ، وَعَنْ القُوَّةِ الَّتِي نَمَتْ فِي صَمْتٍ عَمِيقٍ.”

 

ثُمَّ أَضَافَ بِحِكْمَةٍ لَا يُمْكِنُ إِلَّا أَنْ تَنْبَعَ مِنْ سِنِينَ طَوِيلَةٍ مِنَ المُعَانَاةِ: “البُكَاءُ لَيْسَ ضَعْفًا، بَلْ هُوَ تَأْكِيدٌ أَنَّكَ حَيٌّ، أَنَّكَ لَا زِلْتَ قَادِرًا عَلَى الشُّعُورِ، عَلَى الاِنْكِسَارِ، ثُمَّ عَلَى الشِّفَاءِ. الكِتَابَةُ لَيْسَتْ إِلَّا مَرْآةً تَلْتَقِطُ مَا يَعْجِزُ القَلْبُ عَنْ تَحَمُّلِهِ، وَلَكِنْ لَا تَظُنَّ أَنَّ الكَلِمَاتِ سَتُشْفِي الجُرُوحَ. الجُرُوحُ تُشْفَى بِالزَّمَانِ، بِالرُّوحِ الَّتِي تُعِيدُ بِنَاءَ نَفْسِهَا بَعْدَ كُلِّ اِنْهِيَارٍ، بِالكَلِمَاتِ الَّتِي تَخْرُجُ بَعْدَ أَنْ تَنْتَهِي الحُرُوبُ الدَّاخِلِيَّةُ.”

 

صَمَتُّ لِبُرْهَةٍ، وَرَحْتُ أُفَكِّرُ فِي كَلَامِهِ، وَكَأَنَّ الزَّمَانَ قَدْ تَوَقَّفَ لَحْظَةً، وَدَاخِلَ قَلْبِي شَعَرْتُ بِشَيْءٍ مِنَ السَّلاَمِ، وَكَأَنَّ كَلِمَاتِ العَجُوزِ قَدْ حَلَّتْ مَكَانَ الوَجَعِ.

عن المؤلف