مجلة ايفرست الادبيةpng
...

مجلة ايفرست

مجلة ايفرست الأدبية

صدى الأرواح في زمن الومضات المتسارعة بقلم أمجد حسن الحاج   

صدى الأرواح في زمن الومضات المتسارعة بقلم أمجد حسن الحاج

 

ردي على الكاتبة سجى يوسف،

 

عزيزتي سجى يوسف،

انسابت حروفكِ كتيارٍ من الوعي العميق يلامس شغاف القلب، ردًا ناضجًا وحكيمًا على دعوة الدكتور أمجد حسن الحاج. لقد كانت كلماتكِ مرآةً صادقة تعكس مأساة جيل كامل يعيش على حافة التناقض، بين رغبة جامحة في السكينة الروحية والقبضة الخانقة للحياة الرقمية. إنه لمن الإجحاف أن يُنظر إلينا كأجيالٍ أفلست فطرتها أو تخلت عن مسار النجاة؛ فالحقيقة أكثر تعقيدًا وإيلامًا من مجرد صورة عابرة أو حكمٍ سريع.

إننا لا نملك ترف الاختيار الذي امتلكته الأجيال السابقة، حيث كانت الخلوة متاحة والهاتف غائب. اليوم، أصبحت شاشاتنا هي حجر الزاوية الذي لا يمكن تفاديه، هي النافذة والباب والامتداد الضروري لوجودنا وتواصلنا. إن السجود الذي نتوق إليه لم يتبخر، ولكنه تحول إلى تحدٍّ يومي، صراعٍ مستمر لإيجاد برهة من الصفاء وسط سيل المعلومات الجارف.

إن البحث عن الله لم يتوقف؛ لقد تغيرت أدواته وطرق التعبير عنه. عندما تقولين إن أحدهم يقرأ دعاءه بصمت من تطبيق أو يرسل آية ليُنقذ قلب صديق، فإنكِ تصفين مشهدًا بالغ النبل والتعقيد. هذا ليس ترفًا رقميًا، بل محاولة بطولية لاستثمار “الضوء” لخدمة “السجود”. إنه تحويلٌ ذكيٌّ لأداة التشتيت إلى وسيلة تذكير، وإلى جسرٍ غير مرئيٍّ يُمدُّ بين القلوب المتعبة التي أنهكها صخب الواقع.

نعم، قلوبنا مثقلة. ونحن لا نصلي وحسب، بل نحمل معنا ثقل العالم كله إلى محرابنا. إن الأوجاع الرقمية التي نشاهدها، من صور المعاناة والظلم، هي ما تشكّل وعينا الجمعي بالرحمة والإنسانية. لقد تعلمنا الشفقة من قصصٍ عابرة، ورأينا تجليات اللطف الإلهي في حماية غريب لم نلتقِ به قط. هذه ليست قسوة أو برودًا، بل هي إحساس متضخم بالمسؤولية يثقل كاهل الروح، يجعل السجود ليس مجرد أداء لفريضة، بل تفريغًا لفيضٍ من الحزن والرجاء.

إن المسألة ليست في نسيان السجادة، بل في تثبيت القدم على الدرب الروحي رغم انزلاق الأرض تحت أقدامنا بسبب السرعة المفرطة لهذا العصر. نحن لم نبرر الهروب أو التشتت، بل وصفنا المحاولة الجاهدة للموازنة المستحيلة بين متطلبات الروح الخالصة وقيود الواقع الذي فرض نفسه بومضه المتوهج. إن “الرقبة المنحنية” ليست دائمًا علامةً على العبودية للشاشة، بل قد تكون انعكاسًا لإجهاد روحي عظيم يسعى لأن يرفع رأسه نحو المشرق.

نحن نناضل من أجل “الخلوة” التي تحتاجها الروح لكي تتنفس، في حين أن “العقل” مبرمج الآن على استقبال كل معلومة وصدى يصدر من المحيط العالمي. هذا التناوب المضني بين الركوع والاستجابة للإشعار، بين “الذكر” العميق و”النقر” السطحي، هو التعبير الأدق عن محاولة جيل كامل لا يزال يؤمن بالإمكانية الأخلاقية والروحية لإنقاذ الذات.

رسالتكِ الأخيرة تحمل خلاصة الأمل المقاوم. لسنا بخير تمامًا، ولكننا بالتأكيد لم نمت روحيًا. هذه المحاولات الصادقة لوضع الهاتف جانبًا عند الأذان، أو إغلاقه لإنقاذ القلب من دوامة التيه الرقمي، أو كتابة نصٍّ مُضيء يكسر عتمة التكنولوجيا؛ كل هذه خطواتٌ تثبت أن الفطرة ما زالت حية وتُقاوم الانطفاء.

نعم، قد لا نعود إلى نموذج الأجيال السابقة؛ إننا نُشكل الآن نموذجنا الخاص: جيلٌ يجد توبته في محاولته للنهوض من كل سقطة، جيلٌ يتعلّم كيف يُوازن بين نوره الداخلي والوهج الخارجي. وفي نهاية المطاف، سيُرفع هذا الرأس المنحني، ليس استجابةً لضوء مُصطنع باهت، بل استسلامًا للنور الأبدي الذي لا يغيب، نور الله.