حين يصمت الزحام
الكاتب : هاني الميهي
في الزحامِ الذي تحدّثون عنه كثيرًا،
لا أرى الوجوه بقدر ما أرى الأنفاس المرهقة وهي تتصادم في هواءٍ واحد.
الناس تمشي، لا بحثًا عن طريق، بل عن معنى يبرّر الطريق.
كلّ خطوة تُقال فيها حكاية لم تكتمل،
وكلّ عينٍ تمضي تحمل في داخلها بقايا مشهدٍ لم يُغلق بعد.
كثيرون يهربون من الزحام،
ظنًّا أن الهدوء في العُزلة.
لكنّي أدركتُ — بعد عمرٍ من المراقبة —
أنّ الهدوء لا يُمنح، بل يُصنع،
وأنّ الصخب الخارجي لا يقتلنا،
إنّما الضجيج الذي نزرعه داخلنا هو ما ينهك أرواحنا ببطء.
كم يبدو العالم مزدحمًا،
وكم يبدو القلب أضيق من أن يسع فكرةَ البقاء فيه.
غير أنني تعلّمت أن أساير الزحام كما يُساير العاقل العاصفة:
لا يقاومها، ولا يستسلم لها،
بل ينتظرها حتى تمرّ،
ويقف بعدها ليقرأ ما تغيّر في داخله، لا فيما حوله.
الوجوه التي تمرّ بجانبي كل يوم،
ليست كلها وجوهًا غريبة،
بعضها يشبهني في ملامح الخيبة،
وبعضها يشبهني في الرجاء،
لكن لا أحد يشبهني في طريقة الصمت التي أمارسها كل مساء،
حين أنزع عن قلبي ضجيج اليوم،
وأعيد ترتيب أفكاري كما يعيد البحر ترتيب أمواجه بعد عاصفةٍ طويلة.
في الزحام، لا أنتمي لأحد،
ولا أبحث عن وجهٍ يشبه وجهي،
أكتفي بأن أكون العابر الذي لا يلتفت،
العين التي ترى ولا تُرى،
القلب الذي يمرّ من بين الأصوات جميعها،
ولا يسمع إلا نفسه.
كلّ الذين يهربون من الزحام يظنّون أنهم ينجون،
لكنّ النجاة ليست في الهروب،
بل في أن تجد لك زاوية نقية في الداخل
تجلس فيها مع ذاتك دون خوفٍ ولا قلق،
أن تعرف أنّك ما زلت قادرًا على الإصغاء لصوتك
بينما الجميع يصرخ.
وحين يهدأ الزحام أخيرًا،
وحين تبهت الأصوات وتذوب الوجوه في ضباب المساء،
أدركُ أنّ أكثر ما يخيف الإنسان
ليس فقدان الطريق…
بل أن يجد نفسه وقد صار واحدًا من الزحام،
يمشي بلا وجهٍ،
ويبتسم بلا معنى،
ويحيا وهو لا يدري:
هل هو السائر، أم الطريق نفسه؟
المزيد
اصمدي يا نفسي واستمري – الكاتبة سها مراد
زحام الأرواح – الكاتبة زهراء حافظ رحيمه
الماضي رجلٌ غليظ – الكاتبة سيّدة مالك