” تألم قلبي “
ك / صافيناز عمر
ليس أشدَّ على الإنسان من أن يشعر بأن قلبه يئنّ ولا يسمعه أحد.
ذلك الوجع الخفي الذي يسكن ما بين الضلوع، لا تلمسه الأيدي ولا تراه العيون، لكنه ينهش الروح نهشًا بطيئًا، كأن كل نبضة صارت جرحًا جديدًا.
القلب حين يتألّم لا يختار لحظة الألم، ولا يعرف سببًا واضحًا له؛ إنه وجع يأتي كريحٍ عاتية، تُطفئ ما تبقّى من دفءٍ في الصدر، وتترك خلفها بردًا يسكن الروح.
إنه العذاب الصامت، الذي لا يُروى ولا يُشكى، لأنّ الكلمات — مهما بلغت من صدقٍ وجمال — تعجز عن احتواء ما يشعر به القلب حين يُكسر.
تتظاهر الملامح بالتماسك، وتبقى النظرات صافية، بينما في الداخل عاصفة لا تهدأ.
القلب لا يصرخ، لكنه يتآكل، كشمعةٍ تذوب ببطءٍ في عتمة الليل.
كم مرةٍ حاول الإنسان أن يشرح وجعه، فعجز عن جمع الحروف؟
كم مرةٍ ابتسم وهو ينهار من الداخل؟
كم مرةٍ قال “أنا بخير” وهو يعلم أنه في أسوأ حالاته؟
ذلك هو تألّم القلب؛ وجع لا يحتاج سكينًا ولا صوتًا، يكفي أن تخذلك يدٌ كنت تظنها الأمان، أو يغيب عنك وجهٌ كنت تراه وطنًا، لتشعر بأن العالم ضاق فجأة، وأنك وحيد أمام هذا الوجع العظيم.
يتألّم القلب حين يُحب بصدقٍ فيُقابل بالخذلان.
يتألّم حين يمنح بلا حساب، فيُجازى بالنسيان.
يتألّم حين يتعلّق بذكرى، وتمرّ الأيام ولا تُشفى الروح.
ليس الألم في الفقد ذاته، بل في ما يتركه الفقد من فراغٍ لا يُملأ، من صوتٍ غائب، من تفاصيل كانت تُضيء الأيام، وصارت الآن كندبةٍ على جدار الذاكرة.
القلب حين يتألّم يصبح أكثر صمتًا، لأن الوجع يُثقله.
يخاف أن يبوح، لأن البوح لا يُخفّف، بل يُعيد فتح الجرح.
كلما حاول أن يتناسى، أعادته التفاصيل الصغيرة: رائحةٌ، أغنيةٌ، كلمةٌ عابرة، أو حتى ضوء المساء حين ينساب على الحائط كما كان في تلك اللحظة التي لم تُنسَ.
كأن العالم بأسره يتواطأ على تذكيره بما يؤلمه.
يتألّم القلب حين يدرك أن بعض الأحلام لن تتحقق، وأن بعض الأمنيات ستظل حبيسة الخيال.
حين يرى أن الذين وعدوا بالبقاء كانوا أول الراحلين، وأن الذين أقسموا بالحب تركوه على قارعة الخيبة.
حينها، يفقد ثقته بالعالم، وربما بنفسه، ويبدأ في بناء جدارٍ صامت حول مشاعره، يخشى أن يقترب أحد، لا لأنّه يكره القرب، بل لأنّ كل اقترابٍ بات يوجعه.
وفي أحيانٍ كثيرة، لا يكون الألم من الآخرين فقط، بل من القلب ذاته.
من طيبته التي تُرهقه، من إصراره على التسامح رغم الجراح، من إيمانه بأن الخير سيُقابل بخير — وهو لا يُقابَل إلا بجفاء.
القلب الذي يحبّ بصدقٍ يُصبح أكثر عرضة للوجع، لأنه لا يعرف أن يُحبّ “نصف حبّ”، ولا أن ينسى “نصف نسيان”.
إنه يا يُخلص حتى الفناء، أو يرحل بصمتٍ يائس.
تتبدّل الأيام، لكن الوجع لا يزول، بل يتشكل في هيئة هدوءٍ ثقيل، يشبه السكينة لكنه ليس بها.
يُقال إن الزمن يَشفي، لكنه لا يشفي كل الجراح، فبعض الجراح تُربّى في القلب كما يُربّى السرّ، تُصبح جزءًا منه، يتعايش معها كما يتعايش مع أنفاسه.
قد يضحك، قد ينجح، قد يبدو سعيدًا، لكن تحت ذلك كله، هناك وجعٌ لم يُنسَ بعد، وذكرى تُوجعه كلما لامستها فكرة.
القلب المتألّم لا يطلب شفقة، ولا ينتظر إنصافًا.
كل ما يريده هو راحة، لحظةُ صدقٍ واحدة، حضنُ طمأنينةٍ يُعيد إليه شعور الأمان.
لكن الأمان بات عملةً نادرة، والحبّ الصادق بات حلمًا بعيدًا.
وهكذا يعيش القلب المتألّم بين الأمل واليأس، بين الذكرى والنسيان، بين رغبته في التعافي وخوفه من التكرار.
أحيانًا، يكون التألّم طريقًا للنضج.
فمن يتألّم، يفهم أكثر.
يفهم أن الوجوه تتغيّر، وأن الوعود تُنسى، وأن الصدق ليس قاعدة في هذا العالم.
يفهم أن القوة الحقيقية ليست في عدم البكاء، بل في القدرة على الوقوف بعد الانكسار.
القلب الذي تألّم يومًا، يصير أكثر حكمة، لكنه أيضًا أقلّ ثقة.
لا يعود يُصدّق بسهولة، ولا يُحبّ كما كان، لأن الوجع يُعلّمه أن الحذر أحيانًا أرحم من التسرّع.
ومع ذلك، هناك شيء جميل في القلوب التي تتألّم:
أنها رغم كل ما مرّت به، ما زالت قادرة على الإحساس، على العطاء، على أن ترى في الحياة شيئًا يستحق البقاء.
هي قلوب جُرحت، لكنها لم تفسد.
تألّمت، لكنها لم تفقد إنسانيتها.
تعلّمت أن الحزن لا يعني النهاية، بل بداية جديدة أكثر وعيًا.
حين يتألّم القلب، تتغيّر نظرتنا لكل شيء.
نرى الجمال في الصمت، ونجد الراحة في العزلة، ونُدرك أن السعادة لا تأتي من الخارج، بل من سلامٍ داخلي نحاول بناءه وسط الركام.
نبدأ نُحبّ أنفسنا قليلًا أكثر، لأننا نعرف كم قاومنا وكم تحمّلنا.
نغفر لأنفسنا أخطاءها، ونفهم أن السقوط لا ينتقص من القيمة، وأن الضعف ليس عيبًا بل دليل حياة.
القلب المتألّم يشبه أرضًا أحرقتها النار ثم نبت فيها الزهر من جديد.
في كل وجعٍ درس، وفي كل خسارةٍ حكمة، وفي كل دمعةٍ نور صغير ينير لنا طريق الفهم.
وربما لهذا السبب، خلق الله الوجع، لا ليعذّبنا، بل ليُطهّرنا من زيفنا، ويُعيدنا إلى حقيقتنا.
فالقلب الذي لم يتألّم، لم يعرف بعد معنى الرحمة، ولا عمق الحب، ولا جمال البساطة بعد العاصفة.
إن تألّم القلب ليس لعنة، بل تجربة تكشف معدن الإنسان.
قد يُكسر، لكنه لا يموت.
قد يبكي، لكنه ينهض.
قد يخسر، لكنه يتعلّم أن ما خسره لم يكن له.
وهكذا، شيئًا فشيئًا، يُرمّم نفسه بصمت، حتى يُصبح أقوى مما كان.
وفي النهاية، يبقى هذا القلب العجيب — الذي يتألّم ويُحبّ ويغفر — أعظم معجزةٍ أودعها الله في الإنسان.
قلبٌ قادر على النجاة رغم الطعنات، على الحلم رغم الخيبات، على الإضاءة رغم العتمة.
ربما هو يوجع صاحبه، لكنه أيضًا يمنحه أجمل ما في الحياة: القدرة على الإحساس.
فما أجمل أن يبقى القلب حيًّا، حتى وإن تألّم.
المزيد
اصمدي يا نفسي واستمري – الكاتبة سها مراد
حين يصمت الزحام – الكاتب هاني الميهى
زحام الأرواح – الكاتبة زهراء حافظ رحيمه