إنما للصبر حدود بقلم هاني الميهى
ليس كلُّ من صبرَ راضٍ،
ولا كلُّ من ابتسمَ ساكنٌ من الداخل.
كم من هدوءٍ يخفي خلفه ارتجافًا،
وكم من نظرةٍ مطمئنةٍ تخونها الدموع في الخفاء.
الصبرُ — ذلك الكائن النبيل — لا يسكنُ القلب عبثًا،
إنه ضيفُ الموجوعين، وملجأ من ضاقت بهم السُبل،
لكنّه حين يُرهق، لا يرحل بل يتحوّل…
يتحوّل إلى وجعٍ ناضجٍ، لا يصرخ،
بل يتحدث بصمتٍ يليق بالخيبات الكبيرة.
يقولون للصبر حدود،
وأنا أقول: بل له كرامة.
إنه لا ينفجر إلا حين يُساء فهمه،
ولا يبتعد إلا حين يستشعر أن الصدق لم يعُد مُرحّبًا به.
حينها، لا يحتاج إلى ضجيجٍ ولا إلى وداع،
فهو ينسحب كما ينسحب الضوء عند الغروب،
هادئًا، شامخًا، لكنه لا يعود.
تظنين الصبر ضعفًا؟
بل هو شجاعةُ من امتلك القدرة على البقاء دون أن يُنسف من الداخل،
وإيمانُ من رأى الانكسار واقفًا، ولم يسمح له أن يُسقطه أرضًا.
إنّ أقسى ما في الصبر أنه يُربّينا على التحمّل حتى ننسى أنفسنا،
وحين نعي ذلك، نكون قد دفعنا ثمنًا باهظًا من أرواحنا.
أتعلمين؟
حين يفيض القلب، لا يفيض صُراخًا، بل سكونًا.
حين يتعب، لا يغضب، بل يُغلق أبوابه.
لا يخاصم، لا يبرّر، فقط يختار النجاة في الصمت.
ذلك الصمت الذي يفهمه من كان يومًا في موضع الحُب،
ثم وجد نفسه غريبًا في قلبٍ لم يعد يشبهه.
وللصبر وجوه، منها ما يبتسم ليُخفي،
ومنها ما ينسحب ليحفظ بقايا النقاء في داخله.
ليس لأنّ الحب انتهى،
بل لأنّ الاحترام لم يعُد يجد طريقه بين الحروف.
ولأن البلون لا ينفجر إلا حين يُملأ بأكثر مما يحتمل،
كذلك القلب، لا يتمزّق إلا حين يُختبر أكثر مما وُلد ليستوعب.
وليس في ذلك ضعف،
بل إنذارٌ أخير قبل الفقد.
للصبر حدود، نعم،
لكنّها ليست حدودًا تُرسم بالحساب،
بل تُكتَب على الجرح، وتُوقّع بالدمع،
وحين يبلغها الإنسان،
يصبح أكثر حكمة، أقلّ اندفاعًا،
وأصدقَ مع نفسه ممّا كان يومًا مع غيره.
فلا تلوموا الصابر إذا تغيّر،
ولا تندهشوا من هدوئه بعد العاصفة،
ذلك الهدوء ليس نسيانًا،
بل نضجُ من أدرك أن بعض القلوب لا يُشفى إلّا بالسكوت.
المزيد
اصمدي يا نفسي واستمري – الكاتبة سها مراد
حين يصمت الزحام – الكاتب هاني الميهى
زحام الأرواح – الكاتبة زهراء حافظ رحيمه