كتبت: ملاك عاطف
حين خطوت أولى خطوات الوعي ودست عتبة النّضج، أصبحت مفاهيمي عن الأشياء تأخذ منحنىً غير الذي كانت عليه في السّابق، وأصبحت بصيرتي قادرةً على رؤية جوانب الحياة كاملةً دون أن يخذلها مرمى بصرها، أو يقصر مفوّتًا تصوير بعض الأمور؛ إذ أنّ طفولتي اختبأت في زاويةٍ نائيةٍ من زوايا روحي اليانعة، ولم تعد تتمرّد عليّ أو تتدخّل في قراراتي، حتّى إنّها بدأت تمتنع عن تشكيل ثقافتي ومعتقداتي.
ولمّا أسلمَت لفتوّتي وسلّمَت زمام الحكم إلى شبابي المتّزن راضية، بدأ اهتمام الكبار يقلّ تدريجيًّا؛ مفسحًا لعقلانيّتي المجال لتحكيم فكري في أمور حياتي بعيدًا عن تطرّف المشاعر، والعاطفة، والطّيش، واستشارة الأهل في كلّ شاردةٍ وواردة. هنا بدأت عينا مسؤوليّتي تتفتّح على نور استقلالي شيئًا فشيئا، وأخذ الخوف يتملّك انفتاحي الغضّ على الدّنيا موهمًا إيّاي بالعجز والغربة المزدحمة بالوحدة؛ فاستعنت بمارد القوّة الّذي في داخلي المتربّي على يد سبيستون، ومنحته ثقتي العمياء، بل وسلّمته مفاتيح الأمر والنّهي، ثمّ رحت أتبعه باطمئنانٍ كبير. خلت أنّ العطاء الّذي تعلّمته من ريمي، والوفاء الّذي ورثته عن روميو، والقوّة الّتي اقتبستها من إيميلي فتاة الرياح، والرّقة العابقة باللطف الّتي اعتنقتها مع سالي، خلت أنّ كل أولئك سيقودونني إلى راحة العيش مجتمعين. ولم يخبرني أحدٌ أنّ الدّنيا صارت لعبة، وأنّ القواعد قد اختلفت، ولم أكن على درايةٍ أنّ مالك اللّعبة هو الأبقى؛ لأنّي لم أدرك أنّ البقاء للأقوى إلّا حين جرّبت الوحدة، وخدعت بطُعم الكذب، وطُعنت بسكّين الاستغلال، وبهتُّ بصعقة النّفاق، وتجرّعت مرارة الخذلان.
التمست مئات الأعذار للبعض، وغفرت مرّاتٍ عدّةً لمن كنت أحسبهم من المقرّبين، ثمّ انفجرت أطنان الخذلان الّتي كتمتها لسنوات ربّما، انفجرت دون دويٍّ، ودون أن تحدث ضجّة، ودون أن ينتبه إليها أحدٌ سوى خاطري المكسور. انفجرت بعدًا، وصمتًا، وتجاهلًا، وتغاضيا، وتظاهرًا بالعمى والصّمم، واكتفيت بمشاهدة الأشياء وهي تذهب، وهي تتأتي، وهي تبقى حتّى، إنّي لا أفعل شيئًا سوى المشاهدة، ولن أفعل شيئًا غيرها طوال حياتي.
المزيد من الأخبار
لقاء غير متوقع
جروح
التعلق المرضي وتأثيراته