كتبت: خولة الأسدي
عجيبةٌ هذه الذاكرةُ، بما تنتقيه من أحداثٍ وأشخاصٍ، وبما يُمكنُ لرائحةٍ، أو أغنيةٍ، أو طعامٍ أن يُثيرَهُ فيها!
فيحدثُ أن تُثيرَ أغنيةٌ معيَّنةٌ فيكَ الكثيرَ، وتصنعَ في كيانِكَ كرنفالًا من مشاعرَ ضاجَّةٍ بالذكرياتِ، زاخرةٍ بالانفعالاتِ، التي تنقلُكَ روحيًّا إلى زمنٍ آخرَ، ظننتَ أنَّكَ تركتَهُ خلفكَ، وتركتَ شخصيتكَ التي كانت فيه، بأفكارِها، ومشاعرِها، ومعتقداتِها و…
لتهزمَكَ أغنيةٌ، أو رائحةٌ على غيرِ انتظارٍ، مُثبِتةً لكَ أنَّ كلَّ ما ظننَّاهُ ماتَ واندثرَ، تقبعُ قبورُهُ المزعومةُ في أعماقِنا. فهو بذلكَ يسكنُنا حيًّا وميتًا _كما يروقُ لنا تسميتُهُ_!
ويُزيِّنُ الحنينُ لنا الذكرياتِ، فيبدو فيها العالمُ أجملَ، وتبدو شخصياتُنا القديمةُ أكثرَ نقاءً، وهمومُها سخيفةً ولا تستحقُّ ما أثارتْهُ فينا حينَها، وتبدو حياتُنا في أعينِنا بجمالِ حياةِ الناسِ في العشرينياتِ كما تبدو في أعينِ أبناءِ هذا الجيلِ!
وحتى الأشخاصُ الذين أساءوا إلينا، يُصبغُ عليهم الحنينُ حلّةً من براءةٍ، فيبدو شرُّهُم ساذجًا لا يستحقُّ ردَّ فعلٍ منّا سوى الضحكِ، كأنَّنا نشاهدُ تصرُّفاتِ طفلٍ شقيٍّ!
ويحدثُ بسببِ ذلكَ أن نتمنَّى رؤيةَ واقعِنا من هذا المنظارِ المتسامحِ، المحبِّ حتى لأسوأِ التفاصيلِ، والذي يرى الجمالَ حتى في أقبحِ الأشياءِ والأشخاصِ، ولكنَّ عدساتِ الحنينِ لا تستطيعُ رؤيةَ الأشياءِ القريبةِ!
ومن عجائبِ الذاكرةِ وخيانةِ الذكرياتِ، أنَّها تمحو ما تُريدُ، فتكتشفُ أثناءَ حديثٍ مع أحدِهم، مثلًا، أشياءً عن نفسِكَ كان ليسرُّكَ الاحتفاظُ بها، ولكنَّ ذاكرتَكَ ارتأتْ عدمَ أهميتِها، فقرَّرتْ نسيانَها!
وهكذا يمكنُ لعدةِ أشخاصٍ شهدوا حدثًا معينًا معًا أن يصفوهُ بعدَ فترةٍ بصورٍ مختلفةٍ للغايةِ، لأنَّ كلَّ ذاكرةٍ ستتذكَّرُ ما تريدُهُ فقط، لا كلَّ ما حدثَ!
ومن عجائبِها أيضًا أن تتجرَّأَ على محوِ ملامحِ أشخاصٍ عنوا لنا شيئًا في فترةٍ ما، وإذا بنا بعدَ فترةٍ نحاولُ استحضارَ أطيافِهم، فنجدُها تحاولُ خداعَنا بتجسيدِهِم لنا بهيئاتِ أناسٍ آخرينَ عرفناهم لاحقًا ولم يعنوا لنا شيئًا!
فيستغربُ المرءُ من آليةِ عملِها واستراتيجياتِها العجائبيةِ!
وتتساءلُ: إذا كان لكلِّ حاسةٍ ذاكرتُها الخاصةُ، والتي تستطيعُ جميعُها إفرازَ هرمونِ الحنينِ وما يُصاحبهُ من إنزيماتٍ تعبثُ بمراكزِ الحسِّ والشعورِ فينا، فهل يملكُ الجميعُ ذاكرةً مركزيةً تتحكَّمُ بهم جميعًا، وتأمرُهم بما يستطيعونَ تذكُّرَهُ وما ينبغي لهم نسيانَهُ؟ لذا يكونُ النسيانُ جماعيًا لبعضِ الذكرياتِ؟
أم أنَّهم مستقلُّونَ في وظائفِهم، لا يحكمُهُم إلا التعاونُ البحتُ؟
المزيد من الأخبار
صراع
ماشي
بين طيات الزحام