كتبته : الإعلامية سبأ الجاسم الحوري.
هناك في مكانٍ لا يُرى ولا يُسمع، حيث تعجز الكلمات عن وصف ما يدور خلف الأعين، حيث تلتقي الأرواح وتتحاور بعيدًا عن صخب العالم وضجيج الحروف. في تلك المساحة التي لا يعرفها إلا من تجرد من كل شيء، تاركًا وراءه كل أثقال الحياة، تتكلم الأرواح بلغة لا تحتاج إلى ترجمة. لغة تصنع من الصمت إيقاعًا، ومن السكون أغنية تُعزف على وتر القلوب.
الأرواح لا تحتاج إلى الكلمات، بل هي تبوح بما عجزت عنه الألسن وتترجم ما لم تدركه العقول. حين تلتقي أرواحنا، تحيا تلك الذكريات البعيدة التي دفنّاها تحت ركام السنين، تنبعث من جديد وكأنها نُسِجت في هذه اللحظة. هذه الأرواح، كالشفق الذي يسبق الليل، تلمع في لحظة خاطفة ثم تذوب في أفق لا متناهٍ، لكنها تترك أثرًا خالدًا لا ينمحي.
في كل منا روح تبحث عن نصفها الآخر، ليس بالضرورة نصفًا مكتملًا، لكنه ذلك الجزء الذي حين يلتقي بروحك يعيد تشكيلك من جديد، كما يعيد النحات تشكيل الطين في صورة لا يفهمها إلا من تأملها طويلاً. وحين تجد تلك الروح ضالتها، يصبح العالم مكانًا آخر. كل ما كان يبدو عاديًا يصبح مُعجزة، وكل ما كان صعبًا يصبح سهلًا. تلك اللحظات القليلة التي تلتقي فيها الأرواح ليست صدفة عابرة، بل هي قدرٌ مكتوبٌ منذ بداية الكون، وحين يحدث اللقاء، تدرك أن كل ما مررت به من ألم وفرح، كان مجرد طريق يقودك إلى تلك اللحظة.
هناك، في حضرة الأرواح، تذوب الحدود بين الحلم والحقيقة. تشعر أن كل شيء يتآلف، أن كل شيء يتناغم في انسجامٍ لا يمكن للعقل البشري إدراكه. تتكلم العيون ما عجزت عنه الشفاه، وتحكي القلوب ما لم يُقل منذ زمن. عندها تشعر بأنك عدت إلى نقطة البداية، إلى الأصل الذي جئت منه، وأنك وجدت أخيرًا ذلك الجزء المفقود من نفسك.
تتكلم الأرواح كما يتكلم المطر مع الأرض العطشى، تهطل بهدوء، تسقي النفوس التائهة، ثم تنصرف دون أن تترك أثرًا مرئيًا. لكن الأثر الحقيقي يكمن في الداخل، حيث تشعر أن شيئًا بداخلك قد تغيّر. هناك نوع من السلام الداخلي الذي لا تستطيع تفسيره، نوع من الطمأنينة يجتاحك، كأنك في حضن الأمان، بعيدًا عن مخاوفك، بعيدًا عن شكوكك.
وفي تلك اللحظة تحديدًا، تدرك أن الحياة ليست كما تبدو، أنها أكبر من مجرد سلسلة من الأحداث المتتابعة. هي تلك اللحظات التي لا تُكتب في صفحات الكتب، ولا تُسجل في سجلات الأيام. إنها تلك النظرات، تلك اللمسات التي لا يشعر بها سوى من عاش تجربة لقاء الأرواح.
تتحدث الأرواح بصدقٍ لا يعرف التزييف، بصفاءٍ لا يعكر صفوه شيء. تحكي عن حبٍ لا ينتمي إلى الأرض، بل إلى السماء، عن ارتباط لا تحده مسافات ولا يفصله زمن. عندما تتحدث الأرواح، تتوقف الأرض عن الدوران للحظة، تنسى الأقدار أنها تسير وفق خطة، ويتحول كل شيء إلى سيمفونية من المشاعر الصافية.
الأرواح حين تلتقي لا تُفترق أبدًا، حتى وإن ابتعدت الأجساد. يظل الارتباط بينها خالدًا، يظل ذلك الخيط الرفيع الذي جمعهما غير مرئي ولكنه أقوى من كل شيء. كلما اشتدت الحياة على أحدهم، يذكره الآخر بأن هناك من يشاركه الحلم، من يفهمه دون حاجة إلى شرح، من يقف بجانبه دون أن يطلب منه ذلك.
في نهاية كل لقاء بين الأرواح، تشعر بأنك أقرب إلى ذاتك الحقيقية، كأنك تلمست عمقك الخاص وفهمت أسرارًا لم تكن تدركها من قبل. حينها تدرك أن لقاء الأرواح هو النعمة التي نُمنحها مرة في العمر، وأنه ليس مجرد لحظة عابرة، بل هو البوابة إلى فهم ما لم تستطع الحياة اليومية أن تعلمنا إياه.
عندما تتكلم الأرواح، يصمت الكون، ويبدأ حديث لا يُفهمه إلا من آمن بأن الحب ليس مجرد كلمة تُقال، بل هو لقاء بين أرواح عاشت الأزل معًا وستظل تلتقي في كل زمان ومكان.
المزيد من الأخبار
لست مزيفًا
ثُمَّ ماذا بعد؟!
لما خائفه من الموت