كتبت: هاجر حسن
مع بزوغ نور الصباح، تسللت خيوط الشمس لتلامس السماء التي زينتها السحب البيضاء، معلنة عن قدوم الخريف. نهضت قطرة الندى بحيوية، ألقت التحية على السماء، ثم فتحت مظلتها الصغيرة وبدأت بالهبوط نحو الأرض.
الساعة تشير إلى السادسة صباحًا، وشوارع المدينة تعج بحركة الأتوبيسات المدرسية. الأطفال يسيرون على الأرصفة، يحملون حقائبهم على ظهورهم، مشهد مليء بالحياة والحماس مع بداية السنة الدراسية الجديدة.
في هذا المشهد المفعم بالحيوية، استقرت قطرة الندى برفق على سماعات رأس زرقاء يرتديها فتى صغير يُدعى ميران. كان الفتى ينظر إلى السماء، بينما عيونه العسلية تحكي قصة عميقة. تماوج شعره الكيرلي مع نسمات الصباح، كأنه موجات بحر هادئة.
كان الفتى يقف أمام بوابة المدرسة التي عليها لوحة مكتوبًا عليها: “مرحبًا بكم في مدرسة المستقبل الابتدائية”. كان ميران شاردًا في عالمه الخاص، مختلفًا عن باقي الأطفال، لا يُعير المحطين به اهتمامًا.
اقترب والده منه برفق، قبض على يده بثقة، وكأنما ينقل له شعورًا بالأمان والأطمئنان. وعلى الجانب الآخر تقف والدته ممسكة بيده الأخرى، عيناها تعكسان مزيجًا من الفخر والقلق.
همست والدته له بحنان:” ميران، أنت شجاع ومميز، يا صغيري، ثق في نفسك، وسيكون يومك رائعًا.”
ابتسم ميران بصمت وسار ببطء نحو المدرسة، والقلق يكسو ملامحه.
كانت قطرة الندى تراقب كل شيء من فوق سماعات ميران، وشعرت أن لهذا الفتى قصة تستحق أن تُروى.
في ساحة المدرسة، وقف ميران في الطابور مع زملائه لتحية العلم، لكنه كان مختلفًا. سماعاته الزرقاء تحجب عنه الضجيج، وعيناه موجهتان نحو السماء. الأطفال من حوله يتهامسون ويرمقونه بنظرات فضولية. لكنه لم يُبد اهتمامًا، فقط رفع صوت السماعات ليبقى في عالمه الخاص، كان يردد بصمت ما قاله له والداه: “أنت قوي يا ميران، لست معيوبًا بل منيز، أنت وشجاع.”
عندما دخل الصف، جلس بجواره فتى ودود يُدعى ماجد. بادره ماجد بابتسامة ودودة وقال: “مرحبًا، أنا ماجد.”
تردد ميران للحظة، ثم رد بخفوت: “مرحبًا، أنا ميران.”
في الصف، بدأ الطلاب يتساءلون عن السبب وراء ارتداء ميران للسماعات طوال الوقت، مما زاد توتره.
وصلت المعلمة، السيدة ميريهان، ورحبت بالطلاب بحفاوة. بعد أن قدمت نفسها وطلبت من الجميع أن يعرفوا عن أنفسهم. وقبل أن تبدأ الدرس، سأل أحد الطلاب بصوت عال: “لماذا يرتدي ميران السماعات؟” تصاعدت همسات الفضول بين الطلاب.
هنا تدخلت المعلمة مريهان بحكمة، وطلبت الهدوء. ثم ابتسمت لميران وسألته بلطف: “هل ترغب في أن تخبر زملاءك عن نفسك يا ميران؟”
بخطوات مترددة وقف ميران، أغمض عينيه للحظة، قبض على يده بقوة، ثم استجمع شجاعته، ثم قال بصوت هادئ :”أنا ميران، مصاب بالتوحد. السماعات تحميني من الضوضاء التي تزعجني. لا أحب الضجيج، وأجد صعوبة في التواصل مع الآخرين. أحب الرسم وأتمتع بذاكرة قوية، لكنني لا أحب التلامس أو الضوضاء”
علمني والداي أن لكل منا شئ يميزه، وأنه يجب علينا أن لا نخشى اختلافنا، بل نبحث عن طرق لمشاركة ما يميزنا مع العالم.”
أخذ الطلاب لحظة لاستيعاب كلامه، فسأل أحدهم: “ما هو التوحد؟”
أجابت المعلمة: ” التوحد هو حالة تجعل بعض من الأطفال يروم العالم بطريقة مختلفة. قد يجدون صعوبة في التواصل أو فهم مشاعر الآخرين. لكنهم يتمتعون بمواهب وقدرات فريدة. التوحد ليس مرضًا، ولا خوفًا مفرطًا مثل الفوبيا. بل هو طريقة مختلفة لرؤية العالم.”
ثم نظرت لميران وقالت له: “أنا فخورة بك يا ميران، وفخورة بوالديك اللذين أحسنا تربيتك.”
بدا ميران مرتاحًا بعد شرح المعلمة، وشعر أن هناك من يفهمه أخيرًا. بدأت عيناه تلمعان، وهو يرى في عيون زملائه التقدير والاحترام.
صفق الطلاب بحماس لميران، معتذرين له عن سوء فهمهم. شعر ميران بنسائم من الإرتياح، وقد بدا يرى المدرسة كبيئة آمنة له.
أما قطرة الندى، شعرت بالفخر وهي تراقب ميران، الذي بدأ يخطو خطوته الأولى في عالم المدرسة.
دق الجرس، مُعلنًا نهاية اليوم الدراسي، فخرج ميران من المدرسة بخطوات واثقة، يسير بجواره ماجد. رأى والديه في انتظاره عند البوابة، فودع ماجد وركض نحوهما. احتضنته أمه برفق، بينما سألته بقلق: “كيف كان يومك يا بطل؟”
ابتسم ميران بفرح قائلًا: ” كان يومًا رائعاً، أحببت المدرسة.”
تنفس والديه الصعداء، وكأنما أزيحت عن كاهلهما صخرة ثقيلة.
أما قطرة الندى، فهبطت برفق من على سماعات ميران، ثم همست للرياح التي حملتها برفق نحو النهر، حيث عانقت أشعة الشمس، وقعدت مجددًا إلى السماء، مُعلنة نهاية رحلتها لذلك اليوم……
المزيد من الأخبار
صفق لنفسك بنفسك
عيون لامعة(١)
غريب في غرفتي ٢