كتبت: هاجر حسن
أشرق نور الشمس يتلألأ في السماء، يحرسه المزن المتجمع وكأنه يعلن عن قدوم الشتاء. استيقظت قطرة الندى، مفعمة بالنشاط والحماس، تستعد لرحلة جديدة في أحضان الأرض. تهادت برشاقة فوق مظلتها، لتنزل بخفة إلى عالمها المعتاد.
هبطت قطرة الندى على أرض شاسعة تغمرها الخضرة وتتزين بلون السماء الأزرق الصافي، تتخلله سحب بيضاء خفيفة، وكأنها لوحة رسمت بأنامل الطبيعة. كان الريف الذي تعشقه قطرة الندى حيث تلتقي الطبيعة في أبهى صورتها، هو المكان الذي طالما أسر قلبها وأشبع روحها.
استقرت قطرة الندى على حصيرة من الخوص المتلألئ تحت أشعة الشمس، لفت انتباهها فتى يافع يجلس بجوار والده، وجهه يشع بالأصالة، بملامح قمحية ريفية نقيه، وكأن عينيه تعبران عن حبه العميق للأرض. بجانبه يجلس والده، رجلٌ وقور تبدو على ملامحه الجدية، تتخللها ابتسامة حانية نحو ابنه.
قال الأب بصوت مليء بالحنان والتوجيه: “عُمر، أستعد للعودة إلى البيت حتى تستعد للذهاب إلى مدرستك.” رد عُمر بنبرة متوسلة: “يا أبي، أريد أن أبقى معك اليوم. اسمح لي أساعدك في رعاية الأرض وسقي المحاصيل، لا أرغب بالذهاب إلى المدرسة.”
شعرت قطرة الندى بالدهشة والقلق مما تسمعه، وظلت تراقب حديثهما بترقب.
نظر الأب الحكيم إلى ابنه بهدوء، ثم قال: “يا عُمر، أنت في الصف الثالث الإعدادي، وهذه سنة مهمة ليست فقط لإنها شهادة، بل لأنها ستفتح لك أبوابًا لمستقبلك. هل ستجعلني أندم على اصطحابك معي إلى الأرض هذا الصباح قبل موعد المدرسة؟”
أجاب عُمر بعفوية: “ولكن يا أبي، إنني لا أرى فائدة في الدراسة، لدينا أراضٍ شاسعة وأموال وفيرة، أريد أن أعمل معك في الزراعة، فهذا مستقبلنا.”
ازدادت دهشة قطرة الندى من حديث عُمر، فهي تحب العلم وتدرك قيمته. لكنها استمرت في مراقبة الوالد وردة فعله.
ابتسم الأب وقال بهدوء: ” تعال، يا عُمر لنتجول قليلًا في الأرض.”
نهض عُمر وسار بجانب والده، وبينما هما يسيران وسط المحاصيل، اشار الأب إلى محصول البطاطس قائلاً: “ما رأيك في هذا المحصول؟”
أجاب عُمر بفخر:” إنه من أجود محاصيل القرية، الجميع في المدرسة يطلقون عليه اسم ‘البطاطس الذهبية’.”
ابتسم الأب وقال: “وهل تعرف لماذا هو الأفضل؟” تردد عُمر برهة ثم أجاب: ” لأنك زراعٌ ماهر، وتهتم بزراعة المحصول بشكل جيد.”
ضحك الأب برفق، وقال: ” المهارة وحدها لا تكفي، يابني. هل تعرف ما هي الآفات التي قد تهاجم المحصول؟ وكيف يمكن مواجهتها؟”
أجاب عُمر بثقة: “نعم، خنفساء البطاطس، يمكن القضاء عليها بالمبيدات الكيميائية.”
هز الأب رأسه وقال:”ليس الأمر بهذه البساطة. إن كل معلوماتك محدودة وليست كاملة. العلم هو الذي يجعلنا نزرع بحكمه ونواجه الآفات بفعالية دون الإضرار بالبيئة. بفضل العلم أصبحت المبيدات أكثر أمانًا، وهناك تقنيات حديثة كالأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار التي تراقب المحاصيل وتكشف الإصابة بالآفات مبكرًا. العلم، يا بني، هو سر النجاح والتميز، وهو ما يجعل محاصيلنا مميزة.”
توقف عُمر للحظات، يفكر فيما قاله والده.
رأى الحقيقة في كلامه، لكنه شهر بالخجل من محدودية تفكيره وإهماله في دراسته.
استمر الأب في حديثه قائلاً: “العلم، يا عُمر، هو ما يجعل كل مهنة سامية. إن كنت تحب الزراعة، فتعلم كيف تصبح مهندسًا زراعيًا ناجحًا، وكيف تطور أرضك لتحقيق أفضل النتائج لك وللآخرين. لا يهم أن تكون طبيبًا أو مهندسًا أو مُعلمًا، ما يهم هو أن تتقن وتحب ماتقوم به، بالعلم والمعرفة.”
ابتسم عُمر وقال بامتنان:” أعدك يا أبي أن أهتم بدراستي، وأصبح مهندسًا زراعيًا ماهرًا.”
ابتسم والد عُمر بحب، وودع ابنه الذي انطلق إلى البيت ليستعد إلى مدرسته بروح جديدة، مفعمه بالطموح.
ظلت قطرة الندى تراقب ما يحدث بشغف، وانتظرت جالسة على الحصيرة تداعبها الرياح والخضرة البهية من حولها، حتى أتى موعد الغروب. همست للرياح التي حملتها إلى مجرى المياه، فعانقت أشعة الغروب، وصعدت إلى السماء لتنهي رحلتها مع آخر خيوط الشمس لذلك اليوم…..
المزيد من الأخبار
صرخات أصحاب الأخدود تعود في خيام النازحين
حكاية ارض
حكاية ارض