بقلم: خولة الأسدي
وهأنذا، وبعد طول تجلُّدٍ، خانني دمعي خلاله بضع مراتٍ.. أختلي بنفسي أخيرًا، لأبكي فجيعتي بك بسلامٍ، بعيدًا عن أعين المتطفلين، وعينيّ والدتك المكلومة بفقدك يا حشاشة قلوبنا جميعًا.
هأنذا يا ابن القلب، وفقيده، والوجع.. أسمحُ لقهري بالإنسكاب دموعًا وحروفًا، وأطلق لفكري عنان التذكر، ليغوص في تفاصيلي القليلةُ معك، والتي كانت تعني لقلبي الكثير الكثير..
فأراك، كما رأيتك لأول مرةٍ، بسترتك الزرقاء، ونظارتك، وشخصية الرجل الصغير، بذكاء ردوده، وحنكته، ورزانة تصرفاته، وكبريائه، مما جعلني أشبهك بكونان.
أذكر جلوسك على حجري، وخجلك من ملاطفاتي، فيأبى قلبي تصديق أنه لن يكون ثمة لقاءٌ آخر أشاكسك فيه، وأخبرك أنك وسيمٌ حقًا، وتعجبني، وأعرض عليك الزواج ككل مرةٍ، لترفضني بكبرياء من لا يقبل أن يكون بديلًا لشقيقه الأصغر، خاصة وثمة إعجابٌ خفي، حالت الكرامة بينه والظهور!
ولا أُصدق يا ريان، أني إذا اتصلت لن أسأل عنك: وماذا يصنع ريان المشاغب؟ أما زال مزعجًا كما هو؟ دعوه يُحدثني لأرى!
لترد عليّ بذلك الغرور الذي أحببته فيك: نعم! ماذا تريدين؟!
فيجيبُ قلبي بحبٍ: أريدك أن تتخلى عن شخصية الرجل الصغير ولو لمرةٍ، أستطيع أن أعترف لك فيها بمشاعري الصادقة، دون أن تسخر مني بكلماتك الشبيهة بكلمات العجائز، كما رددتُ لك دومًا!
أريدُ أن أخبرك أني كنت صادقةٌ حقًا حينما أجبتُ على سؤالك يومًا: وماذا عنكِ.. هل ستتزوجين وتدعينا إلى زفافك؟
_نعم، فقط إذا وجدتُ رجلًا مثلك.
مُستمتعةً بإحراجك، الذي كنت أقوم به كلما أُتيحت لي الفرصة، ولكنك لم تكن من الأطفال الذين يعجزهم الجواب، وكثيرًا ما كنت أخرج من أي مبارزةٍ معك خاسرة، وكل الخسارات معك ربحًا، يا أعظم خسارة، وأوجع خسارة، وأشدُّ خسارات قلبي قسوةً!
يا فريدًا لا يُغني عن غيابه ألفُ شخصٍ، ويا فقيدًا كنتُ أرى في كل حاضرٍ منه شيئًا، ورغم ذلك لا شيء فيهم، ولا جميعهم استطاعوا سد فجوة غيابه، فكنت أراه أمامي حيثما وليت وجهي، مُرددةٌ في سري كل دقيقةٍ: لو كان ريان هنا.. كان سيعلق على هذا الشيء بشكلٍ مختلف!
لو كان ريان هنا.. لم يكن ليتركني هكذا، كان سيتبعني كظلي، ليتنمر على أفعالي وأقوالي، فأناكده حينًا، وأحاول إحتواؤه حينًا آخر، وفي كلا الحينين أحبه أكثر فأكثر!
لو كان ريان هنا.. لحدثت الكثير من الأمور بشكلٍ مختلف. لو كان ريان هنا.. لأعطيته هذا، وأخبرته بهذا، وطلبتُ رأيه بذاك، وحدثته عن تفاصيل كثيرة لم يكن الوقت الذي جمعنا سابقًا، كافيًا لأخبره بها، وهو الذي كان يعشق سماع حكايتي، ولو لم يعترف لي بذلك صراحةً، ولكن الطفل الذي يترك اللعب مع أقرانه ليبحث عني في أرجاء الدار، ويظهر على وجهه السرور حينما يجدني وحيدة، ويرفض الذهاب ولو طلبتُ منه.. لا يحتاج لأن يخبرني كم يحب الجلوس معي، ولو لإظهار عكس ما يشعر به!
فمن يُناكدني، ومن أناكدُ الآن بعدك يا ريان؟
من المشاكس الذي سيتهمني بالمبالغة في كل أقوالي، ويجعلني أقسمُ بصدقي، وأنا التي لا يمكن أن أفعل ذلك لمكذبٍ كائنًا من كان؟
من الغيور الذي سيتصدى لي في كل مرةٍ، حينما ألاطف الصغار الآخرين، ويُسمعني عباراتٌ شديدة الحدة والجدية بحدٍ كنت أوشك معه على البكاء؟
ريان.. كل التفاصيل دونك موجعة، وكلُّ الأماكن بلا وجودك خاوية!
ريان.. يا ساحر الروح، والابتسامة، ومُتفرد الشخصية.. لِمَ اختارت الأقدار لنا أن نفارقك بمثل هاته الطريقة القاسية؟
لِمَ كان قدرنا أن نُفجع بك على غير إنتظار؟
لو كنتُ أعلمُ أن للبشر دورٌ في إختيار طُرق رحيلهم، لقلتُ أنك أردت أن تكون مميزًا حتى بذلك!
ثمَّ، وإنك قد كنتَ حاضرًا، في الملصقات التي حين سألتُ: من وضعها هناك؟
أُجبتُ: ريان.
فرأيتُك بعين قلبي وأنت تفعل، وشعرتُ بحزن طوابعك على غيابك، يُفتتُ قلبي!
وفي كراساتك، التي نحيتها وأنا أغالبُ دمعي، الذي لم أستطع السيطرة عليه وأنا أسمع شقيقك يشرح طريقتك في الاهتمام بها، وبتزيينها؛ فهرعت لدورة المياه أستنجدُّ بخصوصيتها وأنا أضغط على قلبي الواثب في أضلعي كطيرٍ مذبوحٍ يعاني من لحظات إحتضاره!
متمتمةٌ لنفسي: سيأتي الليل، وأخفف عنك ولو نزرًا يسيرًا، فصبرًا!
ويأتي الليلُ حقًا، ويجافيني النوم رغم التعب، وبعد قرابين دمعٍ.. يقدمُ مُتعكزًا ذراع الصداع، ووجع الحنين!
وفي الزوايا، والأماكن.. التي كنت أفكر وأنا أراها: لقد جلس هنا، ونام هناك، ولعب هنا، وتناول الطعام هناك، ولم أشهد هاته التفاصيل، ولكن إذا كان هذا وجعي لمجرد تفكري فيها، فكيف بوجع من شهدها؟
اللهم صبرًا لقلوبنا، اللهم لطفًا بقلب والدته!
وذهبت يا ريان، وتركتنا خلفك أحوج بالرحمة التي ندعو لك بها منك، يا طائر الجنان، وشهيدُ العلم، وفقيدنا الصغير، ووجع قلوبنا الأكبر.
المزيد من الأخبار
صفق لنفسك بنفسك
عيون لامعة(١)
غريب في غرفتي ٢