15 أكتوبر، 2024

القــــرية

Img 20240909 Wa0058

. كتب ابوسفيان محمد الكردفاني 

في الهزيع الأول من الليل لاشيء يري سوي الظلمة الحالكة والسكون المخيف، لا تسمع إلا بعض الأصوات الصاخبة التي خلفتها الطبيعة في القرية، ما بين نقيق الضفادع وأصوات الجنادب في موسم التزاوج ، ونباح الكلاب من حين لأخر، وبعض نهيض الحمر التي تمتلئ بها أطراف القرية، وصوت مجنون القرية الذي يصيح بصوته العالي كمغني صاحب صوت نشاذ ، ذاك السكون الذي عاشت فيه القرية حقب متتالية لم يتكدر إلا نادراً بفجيعة أحد القاطنين هناك لموت عزيز لديه، كانت القرية مترامية الأطراف لا يختلف بناءها عن بعضه فقد زين بيوتها الطين والقش، وبعض منازلها تركت عارية من الأسوار متبرجة، شوارعها متعرجة كأفعى ضخمة لا تعرف لها نهاية ، تدخل من أولها لتخرج من أخرجها، حوائطها تئن من طول الوقوف ، تحسها قد هرمت وآن لها الجلوس، المنزل الوحيد الذي كان يتميز عن بقية منازل القرية ببنيانه الجميل ، وأنواره الصاخبة التي تشع من لمبات الرتينة الكبيرة فتحيل ليل القرية إلي نهار ، ما يلبث أن يصير مثل بقية منازل القرية أول ما تنطفئ تلك القناديل قبل العاشرة ليلاً، فتصبح القرية كالمتاهة لا تتعرف فيها على بيت لشدة تشابهها في كل شيء، في بداية القرية تتجمع كلابها في ساحة كبيرة اتخذها الأطفال ميدان للعبهم ، تركض تلك الكلاب خلف تلك الكلبة المدللة ذات الوبر الكثيف التي أصبحت القرية ذات يوم فوجدتها تجذب نحوها كل كلاب القرية أمام شجرة النيم الكبيرة والوحيدة بالقرية ، لم يدروا من أين جاءت ولم يستطيعوا طردها فقد أضحت الملكة المدللة في القرية، تلك الكلاب تركت وظيفتها الأساسية في حراسة القرية وتفرقت للتنافس والقتال فيما بينها للظفر بتلك الملكة ، في نهاية القرية توجد مزارع القصب التي أتخذها شباب القرية متنفساً لهم في كل شيء ، ففي جانب منها تجد المدخنين يتعاطون فيها سموم النيكوتين، كأنهم بذلك يعبرون عن كرههم وحنقهم على وضعهم المزري، وفي الاتجاه المعاكس تجد أهل الراح الذين يبحثون عن راحة لنفوسهم المتعبة، فيشربون وينتشون فتظل الأرض تموج بهم حتى تشرق شمس الصباح، في منتصف تلك الحقول تجد أهل الهوى الذين هاجت بهم الأشواق ولم يستطيعوا الصبر على الفراق، أصحاب الهوى العذري الذين يكتفون بالنظرة والابتسامة فمتى ما تحققت ملكوا الدنيا ورجعوا تعلوا الفرحة وجوههم ، والطرف الثاني الذي لا تكفيه الكؤوس المترعات التي يرتشفها من القبل، ففي الصباح يتركون أثارهم على عيدان القصب الغضة التي تتناثر كأنما دارت فوق أرضها معركة حامية الوطيس، تدب الحياة من جديد في هذه القرية مع صياح الديكة إيذاناً بمطلع الصبح ، فصلاة الصبح لا يعتد بها لبداية اليوم فأهلها لا يتعدون أصابع اليد ، تشرق الشمس عندهم بتثاقل كبير ، حتى أنك تحس أنها لا تنوي الحضور، فأحياناً تغافلهم وتندس بين السحاب فتخرج لهم وقد علت في كبد السماء ، ولكن بمجرد أن تشرق الشمس وتعلو فوق السماء يخرجون عن بكرة أبيهم وينطلقون نحو أعمالهم ، هذا يركب على حماره ويستحثه على السير السريع بضربه على بطنه بكلتا قدميه، وهذا الصبي الذي يتعلق بأطراف ثوب والده ليدركه، وهذان يعرضان بضاعتهما للمارة، وأخر يمسك برجل من ساعده ويحلف عليه بالطلاق أنه ليس ثمن بضاعته ويرجوه أن يزيد له الثمن وذاك يرفض ويأخذ البضاعة ويهرول، وتلك المرأة الكبيرة في السن تجلس وقد أحتشد الناس من أمامها ترمي بودعها ، تسر هذا فيجزل لها العطاء ، وتحزن هذا فيسبها وينعلها ويسخط منها ويصفها بالعجوز الشمطاء، في منتصف السوق لا تري سوي الغبار الذي يعلو المكان ، وتشم رائحة صناح الماشية فتفر نافراً ، لتسمع جلبة كبيرة لا تميز معها شيء أخر كل شخص يجادل ليبيع سلعته وكأنما البيع عندهم يتم بقوة صوتك وحنجرتك، تمضي الساعات هنا بطيئة متثاقلة ، لتنكفئ الشمس في أخر اليوم متثائبة تحمد ربها أنها خرجت من هذا المكان ، فيأتي الليل سريعاً يلف القرية ويدثرها بظلامه الدامس فتعود القرية كحالها الأول من جديد.

عن المؤلف