5 أكتوبر، 2024

مؤامرة البقاء والفناء

Img 20240906 Wa0073

 

كتبت/ مايسة عثمان 

فُقدان الأحبة

-لم اتوقع أنهُ في تلك الليلة، بهذا التاريخ، ستغلق الحياة أبوابها في وجهي!

حدث لي العديد من الأشياء ولكن هذا كان الأسوء على الإطلاق، اتظاهر بالقوة، رغم أن داخلي حطام مدينة كاملة تم قصفها، وجهي في إندهاش تام، يتخدر يدي ويستقر عند ملامسة وجهك، أمامكِ ثابتة دواخلي، ولكن حقًا روحي أهلكها السفر، ترمقني عيناكي كأنها تحدثني عن هذا المكان الذي بدأتي بهِ تتجولين، أزقة هادئة، أضواء خافتة، حبات مطر متساقطة، مقاهي تنبعث منها أصوات ملائكية كصوت فيروز، وحدكِ بدأتي رحلتك لمدينة الصمت، ستتركيني، هذا ما تريدي أن تقوليه، نعم أمي إنكِ تحتضرين..

قبل حدوث ذلك، لم يكن لدي فكرة عن تلك القدرة الهائلة جدًا من التحمل، كهذا الصلاب الذي رأيتهُ في مرآة ذاتي حينها، كنت أخاف فقدانها، كنتُ أرتعب لمجرد الفكرة، ولكن من كرم الله (عز وجل) علينا، أنهُ يجعلنا نتجرع الصدمات جَرع، كشرب كوب ماء حثنا الرسول الكريم

(صلى الله عليه وسلم) تناولهُ على ثلاث جرعات، وليس دُفعةً واحدة؛ حتى لا تتأذىٰ بنياتنا الداخلية، فما بالك البناية النفسية لبني الأنسان؟! 

هُناكَ على مشارف يوم الوفاة وقبلها ليلة من لا وعي، وحالة من عدم تصديق هذا الخبر المُريع، جهزت حالي، حتىٰ هذا الثوب الأسود بدا لي غريب بعض الشيء، رغم إعتيادي عليه، فدومًا ما كان سيد الألوان، لوني المفضل 

كنت أرىٰ في ظلالهِ الجمال، كنت أراه أنيق يعكس أذواقي، ما كنت أرىٰ لهُ غير هذا الجانب، لكن كل شيء لهُ جانبين، لا ترىٰ وجههُ الأخر إلا حين تتألم، فمثل هذه الأيام، الحياة تُسدل ستائرها الحمراء وتطرح الفرحة في شهر الحب، يرتدون الناس وشاحهم الأحمر اللون، حتىٰ جميع الأشياء من حولهم تتلون به، فقد توفيت أمي بهذا التاريخ الذي يلي تاريخ يوم الحب بيومان؛ كأن شعلة الحب لحياتي إنطفئت يوم أن اغلقت عيناها عني، 

فمازلت منذ هذا الوقت وليومنا هذا، معتزة بوشاحي الأسود اللون، فكان لا يمكن للون أخر لفت إنتباهي، أو يحل محلهُ في إنتقائي قبل هذ اليوم، ولكن يوم وفاتها رأيت بلوني المفضل ما لم أراه من قبل، رأيت كيف يُسلط الضوء على أحزاني، وكيف تكن العتمة بهِ لا تعكس سوىٰ ظلال الماضي وذكرياتي، فينعكس بعيني حنين يحبس أنفاسي ويزيد من سواد أحداقي سواد، فنظرت لمرآتي وقد حان موعد الفراق، رأيت بقلبي بياض الإيمان، وعلى شفاهي إبتسامة صبر على البلاء، أردد وأقول، 

” إنا لله وإنا إليه راجعون” 

أمي فى ذمة الخالق، وهو أحن علي عبده من المخلوق، فالقلب العمران بذكر الله، الله دائمًا يلطف بحالهِ ويُسقيهِ حلاوة الإيمان، ويهديهِ من لدنه الصبر والسلوان..

بدأت خطواتي، أمشي بخطىٰ ثابتة، فقد اقررت على نفسي وقت وقوع الخبر على مسامعي، بأنى سأكون معاها بجانبها وهي تُجهز للقاء وجه ربها الكريم، دخلت تلك الغرفة، إنها مليئة بأناس توفاهم الله، اشخاص نائمين ولكن دون انفاس يهز صدورهم، فهذا هو الفارق الوحيد بين الميت والنائم، فالنوم هو (الموتة الصغرى) التي نشهدها كُل ليلة، تقدمت نحو أمي، رأيتها تبتسم، فأطمئنيت واستريح قلبي، رائحتها طيبة، وجهها كالقمر المستنير، تتحضر في ثوب كبياض الحليب، فتوقفت عن النحيب، وبدأت أردد بالدعاء لها، 

“اللهم أكرمها يارب العالمين بُحسن الدار الأخرة، كما أكرمتني في حياتها وفضلتني برعايتها عن الأخرين.” خرجت لدىٰ الجميع، إلى المقابر ذاهبين، إنها على أعتاب حدود الدنيا، إنها تودعني الوداع الأخير، جثة بيضاء، يحملونها على أعناقهم أحبتها، ومن خلفها أنا، فخيل لي طريق النحل، على حد هذا السهل من بعيد، عند خط السما الزرقا تلوح لي بأشارة، أن بيننا هذا الحبل السري الخفي، الذي يربط النحلة بحبها السرمدي الأول، قفيرها أو الوطن لها، الذي دائمًا ما ترجع إليه، دون أن تضل طريقها مهما إبتعدت..

وها جنتي التي كُنت أَقطنها بالأَرض، ورحلت إِلى السماء، مازالت جنتي التي أَفر لها بالأحلام، فبقيت أردد أن لا يحرمني ربي طيفها يومًا، ولا يُنسيني برها بالدعاء، وتستمر الحياة..

مَر إلى الأن خمس سنوات، رغم الرحيل الذي بهِ

ظمِئَ قلبي، والغياب الذي يُسقيهِ إلا شوقًا يمتزج بنقيعِ العَلقمِ، مازلتُ أحيا، أحيا كل عاداتها وأعهدها من جديد.. 

ففي النهاية الحكمة في الموت ليست فقط التسليم بقضاء الله؛ الموت نهاية طريق للحياة والحياة كمثل قطار سريع على خط قضبان ممتد بطول الدهر والزمان، يَمر على محطات أعمارنا، يقف لبرهة فينزل من أنجز رحلته وإنتهت صلاحية تذكرتهُ، ويكمل سعيًا من يزال تذكرتهُ تُختم بختم الأمل، فالحكمة تكمن في تقبل أن لكل شيء نهاية.

عن المؤلف