14 ديسمبر، 2024

ليلة مفزعة

Img 20240819 Wa0035

 كتب / ابوسفيان محمد الكردفاني.                  

ليلة تعلو فيها أصوات الكلاب والقطط هي ليلةٌ لا تنبيء بالخير، تعتليه الرعشة بسبب لسعات البرد التي تتناوشه كلما أزاح الغطاء، يبادر أنفه بالعطاس إستجابةً لتلك الفطرة التي جٌبل عليها، هي ترانيم الحياة نفسها وتراتيل الوجود كعادته، تبدأ كما جرت العادة منذ الأزل بعلو الشمس وارتفاعها في بهاء وطلة تبرز في هندامها وهي تٌرسل رسلها في كل البقاع، فهناك من يراها رمزاً للإلهام والنشاط، وهناك من لا يعبء هماً بقضايا الوجود غير حظه من الطعام والشراب كل يوم…، ثم ترحل الشمس كحلم جميل أراد أحدهم إدراكه ولكن هي الأسباب نفسها، رغبة الشمس في السيطرة على مكانٍ ٱخر،فيحل الليل وجنوده خلفها، وله رُسلٌ هو أيضاً، يطالع النظر للشمس من الناحية الشرقية ليرى أكتافها وهي مدبرة نحو المغيب فيشير لأتباعه أنها دقائق قليلة وسيكتسوا العالم بحلكتهم، وما أن تغيب الشمس حتى يصير الظلام دامساً حتى يٌخال لك أنه سرمدي.

كانت تلك الليلة على غير عادتها تخيف قلبه وتٌفزعه، كان على يقين بأن نباح الكلاب ومواء القطط ليلتها تلك نذير شؤم سيحل بداره وأبناءه، وما أكد له ذلك تلك البوم التي ظهرت مؤخراً على سقف منزله، وهو يذكر حديث جدته فيما سبق، بأن البوم طيور مشؤومة إذا ما حطت على سقف أحد البيوت فإنه سيٌفقد أحدٌهم في هذا المنزل.

مطَّ شفتيه وهو يفكر في حديث جدته، كان الخوف يعتليه، لايدري ماذا عساه يفعل، فطفق يغمغم ببعض آيات القرآن يبث بها الطمٱنينة لنفسه، خوفٌ ما داخلي يعتليه، وغصةٌ ما تعتلي حلقه يبتلع ريقه مرةً وأخرى علّه يبتلع معه خوفه، يغترف جبينه العرق من رأسه قُرباناً للخوف بأن يمضي، يفكر في أسرته بخوفٍ شديد، يسأل نفسه بصوت مسموع (تُرى من سأفقد ؟).

يعُدهم على رأسه سامحاً لعينيه وذاكرته بأن تُطل على أفضل الصور التي حفظها لهم في مُخيلته، يفكر في طفله الصغير حديث الولادة، يتذكر تعسر ولادته وصعوبتها، يتذكر صرخات أمه كشواهد على الألم، أو لربما هي طقوس سرمدية لا يخرج الطفل إلا إذا تقدمته عبرات وصرخات أمه وألمها قداسةً وتجلالاً له.

لا زال يذكر تلك الليلة، لقد كان نائماً في غرفته وبجانبه زوجته الحسناء ومعها بطنها المنداحة المتكورة، وهو كذلك بطنه لا تقِل عنها حجماً ولكنه قد ملاءها بالطعام، وهي قد إحتفظت فيها بشيء منه، استيقظ عند الواحدة ليلاً بعد أن سمع تناهيد زوجته وهي تئن وتتألم، أمسكت بيده وهي تنادي بإسمه بصوت متحشرج تغلبه الدموع والخوف من شدة الألم، استيقظ فوراً وأمسك بهاتفه بحثاً عن مفتاح المصباح، وما أن ضغط عليه حتى انبعث الضوء في الغرفة، فنظر لزوجته ورأى جبينها وهو ينز من العرق، فعلم أن أوان طلقها قد حان، قام بمسح العرق عن جبينها بعد أن جلس بقربها وهو يداعب خصلات شعرها، وتراه يحفزها مرة ويخفي خوفة تارةً ويظهره تارةً ٱخرى.

ذهب إلى غرفة بنته الكُبرى وقرع باب حجرتها قرعاً خفيضاً خافتاً، ومن ثم دلِف لغرفتها، كانت نائمة فأيقظها برفق وهو يناديها، تفتحت عيناها ببطء شديد ونظرت لوالدها يجلس بقربها، أخبرها بأن أمها في حالة وضوع، قفزت من فراشها بسرعة وتوجهت نحو غرفة أمها، بينما أكمل الأب رسالته للغرفتين الأخرتين، كان ابنه المتوسط نائماً والغطاء على الأرض، فبادر الأب بحمل الغطاء وطيه؛ لأنه يعلم أنه ليس بالوقت المناسب للنوم الٱن، وقف يطالعه لبرهة وهو يعلم بأن نومه ثقيل للغاية وأنه يحتاج لمجهود وعناء كبيرين لإيقاظه، فحاول مرةً وٱخرى فلم يستيقظ، فلو لم يطالع رئتين وهما تقبلان الهواء وتردان له القُبل لحُسب أنه ميتاً؛ لذلك جنح الأب لتركه غارقاً في النوم، وكذلك طالع غرفة ابنه الأصغر الٱخر فوجده نائماً، فعاد إلى غرفة زوجته ، وجدها لا زالت تصرخ بصوت مكتوم، فعلم أن الأمومة حتى في قمة الألم ستبذل قصارى جهدها لكي لا تُفسد عليهم نومتهم، نظر لفتاته الكُبرى وأخبرها بأنه سيحضر سيارة اسعاف وأنها ستبقى في المنزل لتراقب إخوتها الصغار، في البدء رفضت؛ بيد أن لسان المنطق كان قاطعاً، لقد كانت ليلة صعبة للغاية عليهم جميعاً، لقد تعثرت ولادتها حتى سُمعت صرخة مدوية تشُق رداء الصمت، طفل صغير يصرخ ملء حنجرته، ليس لألم الولادة؛ بل لكونه نطفةً من الطين.

كان عقله موطناً لذكرياته، وقد تناوشته الأفكار وكأنه على يقين بأنه سيفقد أحدهم، اعتلاه الفزع بإقتراب الساعة للثانية عشر بعد منتصف الليل، فكّر في أنه إذا تجاوزت الساعة الواحدة ليلاً فإنه لن يفقد أحدهم في تلك الليلة، سكن قليلاً وهو يشاهد ساعته ويراقب عقاربها وهي تتحرك، لم يقوى على التحمل والصبر أكثر، تقدم نحو طفله الصغير وأتى يطالعه فنظر له مداعباً، ولكن الطفل لم يعبأ له هماً، تقدّم نحو غرفة بنيه الٱخرين فوجدهم ساكنين لا يُعيرونه اهتماماً، كمقدمة كتاب قد تجاوزها احدهم، صرخ فيهم بصوته العالي ولكنهم كانوا لا يسمعون له، جحظت عيناه دهشة، فتقدم نحو زوجته ليخبرها عن عقوق أبناءه، فدخل الغرفة حتى هاله ما رأى! وجدها تبكي وبالقرب منها جسداً مُسجى بالطيلسان، وما ان تقدم نحوه حتى وجدها جثته.

عن المؤلف