14 ديسمبر، 2024

ومن الحب ما صدق

Img 20240810 Wa0092

 

بقلم عُلا يوسف اللبان

الصدق هو أقرب الطرق إلى تنقيح النوايا، الصدق نجمة لامعة في سماء حقيقة النفس. تميل النفس البشرية إلى التفاعل والانخراط في المجتمع، فيضطر الإنسان إلى محاباة هذا والانشغال مع ذاك، فلو استطاع الإنسان أن يبتغي نفقًا في الأرض أو سُلمًا ليصل إلى هدفه ليستفيد ممن حوله لفعل ذلك؛ كل إنسان يُظهر للآخر وجهه الجميل، ومعاملته الطيبة، وحبه الفريد الذي لا تشوبه شائبة، واهتمامه بتقديم كل ما لذ وطاب لمن يتعامل معهم يوميًا أو يعيش معهم عقود طويلة، فهل هذا الصدق هو المطلوب أو المستحسن؟!.

 

حسنًا أن يفعل الإنسان كل ذلك، ولكن الصدق هو أن يكون الإنسان صادقًا مع نفسه أولًا، فالحب الحقيقي ليس الذي يظهر أمامنا بل الحب الصادق الذي تتفجر ينابيعه بعد الموت!.

 

كل حب يذهب ويتلاشى بعد موت الإنسان ليس بحب وإنما هو مجاملة لهدف ما.

يُقال إن لم يزدك البعد حبًا فأنت لم تحب حقًا، هل نتذكر كل مَن سبقونا إلى دار الحق ونتضرع إلى الله من أجلهم، كانوا معنا هنا في هذه الحياة نحبهم ونتودد إليهم، ونقاسمهم أيامنا ومتاعبنا، فهل تذكرناهم في دعائنا؟!. أم رحل الحب مع رحيلهم إلى الحياة الحقيقية؟!.

 

إذا كان الصدق زورقنا، والحنين طوفان يغرقنا في بحر الدعاء، فنسبح بأفئدتنا نحو أحبابنا لنتصل معهم بالدعاء، 

وفاء الإنسان لا يتغير سواء كان مَن يعرفه أمامه أم سبقه إلى الدار الآخرة.

 

 كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يظهر حبه لخديجة بعد مماتها، ويذكر فضائلها ومحاسنها.

 

وتروي عائشة -رضي الله عنها- فتقول: “ما غِرْتُ علَى أحَدٍ مِن نِسَاءِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ما غِرْتُ علَى خَدِيجَةَ، وما رَأَيْتُهَا، ولَكِنْ كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا”.

 

حِرْص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إخراج الصَّدقة لصاحباتها بعد وفاتها، فكان يذبح الشّاة ويقطّعها ثمَّ يقوم بتقسيمها وتوزيعها على صويحبات خديجة -رضي الله عنها-، وكان يبعث بالشيء لصاحباتها ويقول: “اذهَبوا به إلى فلانةَ فإنَّها كانت صديقةَ خديجةَ”.

 

فرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وظهور بوادر السرور على وجهه عندما تزوره أختها هالة، وكان حين يستأذن أحدهم للدخول عليه يدعو الله -تعالى- أن تكون هالة بنت خويلد.

 

فقد روت عائشة -رضي الله عنها- فقالت: “اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ علَى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاحَ.

 

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفرح حين يسمع صوت هالة، لأنّه يُشبه صوت خديجة -رضي الله عنها-، ويميّز مجيئها عليه من ذلك. 

روت عائشة -رضي الله عنها-: “كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا ذكَرَ خَديجةَ أَثْنى عليها، فأحسَنَ الثناءَ، قالت: فغِرْتُ يومًا، فقُلْتُ: ما أكثرَ ما تذكُرُها حَمراءَ الشِّدْقِ، قد أبدَلَكَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها خَيرًا منها، قال: “ما أبدَلَني اللهُ عزَّ وجلَّ خَيرًا منها، قد آمَنَتْ بي إذ كفَرَ بي الناسُ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ، ورزَقَني اللهُ عزَّ وجلَّ ولَدَها إذ حرَمَني أولادَ النِّساءِ”.

 

استقبال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكلِّ من كان يذكِّره بخديجة ويرتبط بها، ومن ذلك لمّا أتت ماشطة خديجة إليه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من أنتِ؟!

 قالت: أنا جثَّامةُ المُزنيَّةُ، فقال: بل أنتِ حسَّانةُ المُزنيَّةُ كيف أنتُم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتُم بعدنا؟ قالت: بخيرٍ بأبي أنت وأمِّي يا رسولَ اللهِ، فلما خرجتُ قلتُ: يا رسولَ اللهِ تُقبِلْ على هذه العجوزِ هذا الإقبالَ، فقال: “إنها كانت تأتينا زمنَ خديجةَ وإنَّ حسنَ العهدِ من الإيمانِ”.

 

فقد كان صلى الله عليه وسلم “إذا ذكر خديجة لم يكن يسأم من ثناء عليها واستغفار لها” رواه الطبراني.

 

اتخذ المجاهد عصام العطار الرسول عليه الصلاة والسلام قدوة له وكان هذا جليًا في رثائه لزوجته “بنان علي الطنطاوي” ، أبيات من قصيدة “رحيل”:

 

و لَيْسَ يومُكِ في قلبي بِمُنْصَرِمِ 

و يا رفيقةَ دَرْبي و الدُّنا ظُلَمٌ

نَشُقُّ دَرْبَ الهُدَى في حالِكِ الظُّلَمِ

عِشْنا شريدَيْن عن أهلٍ وعن وطنٍ 

ملاحماً من صراع النور والقِيَمِ

الكيد يرصدنا في كل مُنْعطَفٍ

 والموت يرقبنا في كل مُقْتحمِ

 

قصة وفاء المجاهد عصام العطار لزوجته الشهيدة بإذن الله بنان علي الطنطاوي من أجمل وأصدق قصص وفاء الأحياء لمن سبقوهم إلى دار الحق ولا أحبذ قول الأموات لأن كل حبيب لا يموت في قلب من يحبه ولكن يرحل بجسده وتبقى روحه. 

وددت أن أسرد كلمات الراحل المجاهد عصام العطار ، كم بث فيها كل أشواقه، ونثر عليها بديع أوصافه فتجملت في أبهى صور الوفاء.

 

في عام ٢٠١٨م قال عصام العطار المجاهد ضد الظلم : 

 

مضى في شهر مارس، سبعةٌ وثلاثون عامًا على استشهاد زوجتي «بنان علي الطنطاوي»، أم أيمن – رحمها الله تعالى .

 مضت على غياب هذا الكوكب الذي أضاء حياتي وحياة أسرتي في أحلك ليالي الغربة والتشرد والخطر والمرض، وأضاء لمن كان حولنا حيثما سَرَيْنا في الأرض”. 

 

 مضت سنوات على فراق زوجتي وحبيبتي وصديقتي ورفيقة دربي، وسندي وعَوْني حيث لا سند ولا معين إلا الله. رحلت هذه المسلمة العظيمة، والزوجة العظيمة، والأم العظيمة، والإنسانة العظيمة.

 

لم تحمل في قلبها وفكرها هموم بلدها وأهلها وأخواتها وإخوتها فحسب، بل حملت مع ذلك هموم عالمها العربي والإسلامي، وهموم الإنسانية والإنسان أنّى كان هذا الإنسان.

 

فاضت في قلبها الرحمة فشملت سائر المخلوقات، وكم رأيتها تبكي لمَآسي ناس لا نعرفهم في بلاد لا نعرفها، وكم سمعتها تُذكِّر في أحاديثها ودعوتها إلى تعارف الشعوب، وتراحمها وتعاونها على الحق والعدل والخير، بقول الله – عز وجل – لرسوله الكريم: «ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين»، وقول الرسول – صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ تبارَكَ وتعالى. ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاء»، وقول الله تبارك وتعالى: «وتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ..».

 

لم تكن الأخوَّة الإنسانية، والمسؤولية الإنسانية، وعالمية الإسلام عندها مجرد شعارات أو كلمات، ولكنها كانت حَقيقة راسخة مؤثرة في الفكر والشعور، والضمير والسلوك.

 

كانت رحمها الله تعرفني وتفهمني وتحسُّ بي إحساسًا عجيبًا، كأنها تسكن في داخلي، وتعيش معي مشاعري وخواطري، ولو لم أنبس ببنتِ شفة.

 

 كانت تستطيع بنظرةٍ واحدة خاطفة أن تستشفَّ ما يدور في خَلَدي، وأن تعرف مهما كنت عاديَّ المسلك هادئ المظهر، إن كنت في أعماق نفسي حزينًا أو مسرورًا، مشغول البال أو مطمئن النفس. 

 

وكانت وهي شريكة حياتي كلها، تستطيع أن تُقدّر دون سؤال أسباب ما أنطوي عليه من سرور أو حزن، ومن طمأنينة أو قلق، وما كان أقدرها عند ذلك على أن تحيطني من محبّتها وفهمها ومشاركتها الوجدانية العميقة الصادقة، في ظروفنا المختلفة الصعبة، بكل ما يُسَرّي عن النفس، ويجدّد العزم والنشاط، ويعين على متابعة الطريق مهما كانت المصاعب والظروف.

 

كانت – رحمها الله – قادرة رغم حساسيتها الشديدة وتأثّرها الشديد بكل ما يَعْرض لنا أو ينـزل بنا قادرةً على أن تَسْتَنْبتَ أزاهير سرورٍ في أراضي الأحزان، وتوفر لنا لحظات مُتَعٍ بريئةٍ في زحمة الواجبات والأعمال، وأن تُحوِّل غرفًا حقيرة سكنّاها إلى ما هو أحلى من قصور، وأن تجعل سعادةً غريبةً تسكن معنا وتعيش بيننا حيث سكنّا من البلدان، وكثيرًا ما شعرنا في غرفنا الحقيرة بهذه السعادة الغامرة، وبنشوة الاستعلاء على الشدائد والمغريات في سبيل الله عز وجل .

 

نعم، لم نكن دائمًا في طباعنا ورغباتنا وآرائنا وخياراتنا في أمور الحياة المختلفة صورةً واحدةً لا نختلف أبدًا في حب أو كره، وفي تقويم أو حُكم، وفي رأي أو خيار، ولكن لم يكن يطول أو يشتد بيننا خلاف إن حصل – ونَدَر ما كان يحصل بيننا خلاف – فالبواعث في حياتنا واحدة، والمنطلقات واحدة، والغاية واحدة، والأهداف واحدة، والمقاييس والموازين واحدة، والحب العميق المتجدد لا ينضب ولا يضعف، والإعجاب والتقدير والعرفان يزداد يومًا بعد يوم ولا ينقُص.

 

كانت إذا أحسّت في نفسها، أو أحست منّي في حوارنا ونقاشنا في بعض الحالات النادرة بوادر زَعَلٍ أو غضب، لم تسمح لهذا الحوار والنقاش أن يستمر ويشتد، وانفردَتْ بنفسها ساعةً تطول أو تقصر تقرأ القرآن – كما تعوّدتْ – بقلبها وعقلها ولسانها ودموعها؛ ثم تنهض أَهْدَأَ ما تكونُ حالًا، وأرضى ما تكونُ نفسًا، وأكثر ما تكون انشراحًا ونشاطًا.

 

لله هذه المرأة المسلمة ما كان أَوْثَقَ ارتباطها بكتاب الله عز وجل. كان القرآن العظيم حقيقةً لا كلامًا ولا وهمًا ربيع قلبها، ونور صدرها، وجلاء حزنها، وذهاب همّها. 

 

كان القرآن حياتها وباعثها، ودليلها وهاديَها في مختلف مشاعرها ومواقفها وخطواتها، وكان حصنها الحصين، وملجأها الأمين، عندما كانت تُطْبق علينا في بعض أيامنا الظلمات، وتعصف حولنا العواصف، وتطرق أبوابنا المخاوف والمخاطر، فلا يكون أحدٌ في الدنيا أكثر منها وهي تعتصم بالإيمان والقرآن طمأنينةً وأمنًا، ولا قدرة على الثبات والصبر، وعلى تحدي الطاغوت ولو ملأ بطغيانه الدنيا.

 

 ثم تنهض أَهْدأ ما تكونُ حالًا، وأنعم ما تكون بالًا، وأوفر ما تكون انشراحًا ونشاطًا، ولا نستأنف ما كنا فيه من حوارٍ ونقاش؛ ولكنها تكتبُ إليّ قبل أن ينصرم النهار، وينسدل الظلام، رسالةً فيها ما يشاء المحبون الصادقون من رقة وعاطفة وأناقة وجمال.

 

تكتب إليّ رسالةً مِلؤها الحب والعرفان وشكر الله – عز وجل – على ما أنعم به علينا من الإيمان والطاعة والمحبة والسعادة، ومن سائر النعم، ثمّ تعرض عرضًا موضوعيًا أمينًا، ما دار بيننا من حوار ونقاش، وما اتفقنا عليه أو اختلفنا فيه، وتشرح وجهة نظرها بهدوء ووضوح واختصار، ثم تترك في نهاية الرسالة الأمر إليّ أختار فيه ما أراه، وأنا أختار عادةً في أمورنا الخاصة ما تختاره هي، فإذا تعلق الأمر بواجب من الواجبات، أو بما يجرّ نفعًا أو ضررًا لآخرين، عاودنا الجلوس والحوار والنقاش بهدوء وانبساط واستيعاب، وانتهينا فيه إلى اتفاق على ما نراه صوابًا أو أقرب إلى الصواب.

 

وكتابة الرسائل عند «أم أيمن» – رحمها الله – إلى زوجها عادةٌ من أرسخ العادات عندها، وأجمل العادات وأنفع العادات؛ فهي تكتب إليّ ونحن نعيش في بيتٍ واحد، ونتحدث ما شئنا الحديث في أي ساعة من ساعات الليل والنهار، في أي أمر من الأُمور كَبُر أو صَغُر، بشغفٍ وبعفْويّةٍ وبساطة دون أي تكلف أو حرج، ولكنها مع ذلك تكتب إليّ.

 

تعبر بأسلوبٍ بليغٍ ساحر عن أعمق أعماق نفسها، وعن أدق أحاسيسها ومشاعرها، عن محبتها الغامرة لزوجها وطفليها وأهلها، عن حنينها الدائم للشام، وأحبابنا في الشام، ومدارج طفولتنا وشبابنا وذكرياتنا في الشام.

 

هذه الرسائل التي كتبتْها «بنان، كنزٌ إسلامي إنساني أدبي لا يقدر بثمن؛ ولكنني أضعتُ هذا الكنز وآسفاه.. أضعتُه أو سُرِقَ مني مع ما ضاع أو سُرِقَ من أوراقيَ الأُخرى، عندما فرض عليّ فرضًا من سلطاتٍ ألمانية ألا أستقر في مكان، فهناك – كما قالوا – قتلة مسلحون يقتفون أثري، ويريدون قتلي، فيجب أن يتغير عنواني وسكني باستمرار.

 

 قلت لهم: دعوني أُقْتَلْ فأنا لا أخاف القتل، ولا أرهب الموت، ولا أحمّلكم ولا أحمل أحدًا غيري مسؤولية ما يصيبني. قالوا: إن وجودَك في مكانٍ دائم يهدد حياة غيرك من السكان، وينشر القلق والفزع في الشارع الذي تسكن فيه، ويصنع كثير من الأخطار والأضرار.

 

جمعتُ أوراقًا مهمةً لي، أثيرةً عندي، ومن أهمها رسائل أم أيمن القديمة والحديثة، ووضعتها مع المصحف الشريف في حقيبة خاصة، وأسلمتُ نفسي لقضاء الله وقدره.

 

سنةٌ ونصفُ السنة، لا يكادُ يستقرُّ جَنْبي في بلد أو سكن، حتى يقال لي: ارحل فقد عُرف مكانك، وفي هذا الرحيل المتواصل في الصيف وفي الشتاء، وفي الربيع والخريف، بين مدنٍ وقرىً، وفنادق ومنازل منقطعة عن العمران، يباعد بعضها عن بعضٍ أحيانًا مئات الكيلومترات، وأنا مرهقٌ و مريضٌ فُقِدَتْ مني أوراقي وفيها رسائل أم أيمن.

 

ما أحَبَّتْ زوجةٌ زوجَها أكثر مما أحَبَّتْ بنانُ زوجَها، وما فهمَتْ زوجةٌ زوجَها أكثرَ ممّا فهمَتْ بنانُ زوجها، وما أعانَتْ زوجةٌ زوجَها أكثرَ ممّا أعانَتْ بنانُ زوجَها، وما تعبتْ زوجةٌ بزوجها، ولا ضَحَّتْ زوجة من أجل زوجها أكثرَ ممّا تعبتْ وضَحَّت بنان، وما شاركتْ زوجة زوجَها في النعماء والبأساء، والسراء والضراء، واليسر والعسر، والصحة والمرض، والأمن والخوف، والغربة والوطن بقلبها وفكرها وكل كيانها وطاقاتها، وآثرَتْ زوجَها على نفسِها في مختلفِ ظروفِها وحالاتها أكثرَ مِنْ بنان!.

 

لقد امتزجتْ حياتُها بحياتي قلبًا وفكرًا، ورؤيةً وأملًا، وإرادةً وعملًا؛ كان قلبي ينبضُ في صدرها فتُحِسُّ ما أُحِسّ، وتطلب ما أطلب، وكان قلبها ينبض في صدري فأُحِسُّ ما تُحِسُّ، وأهفو إلى ما إليه تهفو، فكأننا في معظم أمورنا شخصٌ واحد: إذا تكلمتْ – كما يعرف ذلك كل من صحبنا أو عرفنا أو سمعنا – فالروحُ روحي، والنّبْرَةُ نَبْرَتي، واللهجةُ لهجتي، وإذا كتبتْ فاللغةُ لغتي، والأسلوبُ أسلوبي؛ فما يُفَرِّقُ بين ما أكتُبُهُ أو تكتبُهُ إلا ذَوّاقَةٌ بَصيرٌ خبير.

 

يَخْطُرُ لي أحيانًا خاطرٌ مفيدٌ أو طريفٌ أو جميل، وأهمُّ بأن أُكاشِفَها به، فَأُفاجَأُ بأنهُ قد خطر لها مثلي، فهي تتحدث إليّ به قبل أن تسمع مني! وأفكّرُ في عملٍ واجبٍ نافع، فإذا هي تلفتُنِي إلى مثل هذا العمل الواجب النافع، وما نَبَسْتُ بشأنه بحرف، ثم إذا هي تُسابقُني إليه وتَسبقُنِي في الحَماسة والتخطيط والتنفيذ، وتَبْسُط يدَها المُحِبّةَ الحانيةَ لزوجها المريض لِتُعينَهُ على أداء الواجب ومُتابعة الطريق.

 

 هذه لَمْحَةٌ خاطفةٌ فقط من حياتي مع زوجتي الشهيدة التي اغتالوها ظُلْمًا وغَدْرًا على عَتبةِ بيتِنا في آخِن. هذه لمحةٌ خاطفةٌ من حياتي مع زوجتي العظيمة التي فقدتُها قبل سبعة وثلاثين عامًا في السابع عشر من مارس عام ١٩٨١ م، ففقدتُ الحَبيبَ والصَّديقَ والمُعين.

 

قال مَلِكٌ عربيٌّ لمسؤولٍ كبيرٍ جدًا في سوريا: نحنُ نفهم أن تقتلوا عصام العطار، أما أن تقتلوا زوجته! قال المسؤول الكبير في ذلك الحين:

 

نحن لم نقتل عصام العطار كما أردنا، ولكننا أصَبْناهُ في مقتل؛ لقد قَطَعْنا بقتل زوجته بنان يده ورجله، ولن يستطيع بعدها أن يتحرك كما يتحرك، وأن يعمل كما يعمل.

 

يا قرائي الأعزاء: إنّ نفسي تموج في هذه اللحظة بالذكريات والمشاعر والخواطر والدموع، ولكنّ يَدِيَ المُهْتَزَّةَ المرتجفةَ الواهنة لم تَعُدْ قادرةً على الكتابة ولا على الإمساك بالقلم، فوداعًا هذا اليوم ووعدًا لكم أنني سأتابعُ معكم الحديث – إن شاء الله تعالى – عن هذه المسلمة العظيمة، والشهيدة العظيمة، فهذا حقُّ الله عليّ، وحقُّ التاريخِ عليّ، وحقُّ أجيالٍ إسلاميةٍ جديدةٍ تحتاجُ القدوةَ الصالحة بمثل هذه المؤمنة الرائعة الشامخة.

 

كان المجاهد عصام العطار رمز للكفاح والتضحية والوفاء لوطنه ولزوجته بنان التي رحلت عنه وتركته يتذكرها ويدعو لها ويكتب عنها حتى يعرفها الجميع ، لم ينساها أو يغفل عنها، فالموت بداية الوفاء وليس نهايته كما يظن البعض، فالموت هو السبيل الوحيد لمعرفة من يحبك حقًا، فالدنيا لم تكن أبدًا المقياس الحقيقي للحب.

عن المؤلف