كتب: أحمد مدحت
كان يقف أمام الضابط بقامته الضئيلة و جسده المرتعش يتوارى خلف أبيه متشبثا بملابسه، والده الذي يجهل لماذا أتوا به و بولده بهذه الطريقة ؟ و ليس لديه علم عن تبدل حال ولده ذو العشرة أعوام منذ أيام، ذلك الطفل المرح المحب للهو و الصخب أصبح في ليلة و ضحاها صامتا عابثا أغلب الوقت، يستقيظون أحيانا على صوت صراخه و الوسادة مبللة من أثر بكاءه، في يوم سمعوا طرقات عنيفة على باب بيتهم و عندما فتح الأب بادره أحد العساكر بسؤال أصابه بالذهول ..
– أنت والد صالح؟
لماذا تسأل الشرطة عن طفله الذي لا يتعدى عمره العشر سنوات؟
– ماذا فعل ولدي؟
– ستعرف في القسم
كان طفله يقف خلفه في هلع، كاد يجذبه العسكري لكن أسرع الأب و حمل طفله و قال ..
– سنأتي معكم دون أن يمسه أحد
و ها هم الأن أمام الضابط الذي سأل الطفل بشكل أعنف و هو يحدق فيه بغضب ..
– انطق يا ولد، لماذا حرقت البقالة؟
صدم الأب، أكان طفله هذا القزم الصغير هو السبب في الحريق الذي نشب في البقالة المجاورة لهم! و لكن كيف؟ استنكر الأب قائلا..
– يا حضرة الضابط كيف لهذا لطفل أن يفعل شئ مروع كهذا؟
أخرج الضابط هاتفه و أعطاه للأب الذي شاهد فيه طفله من إحدى كاميرات المراقبة و هو يدخل وسط الزحام مستغلا إنشغال البقال و في يده قداحة مقتربا بها من إحدى منتجات المقرمشات و أشعل في صندوق منهم النار و خرج راكضا، و سرعان ما أنتقلت النيران للبضائع المجاورة.
جلس الأب على ركبتيه و مسك بكتف صغيره في رفق و قال ..
– لماذا فعلت هذا يا بني؟
كان هناك تلفاز في مكتب الضابط يعرض نشرة الأخبار لواحدة من جرائم الأحتلال الصهيوني، أنهمرت دموع الطفل و خرجت الحروف من بين نشيجه متقطعة مشيرا بكفه الصغير إلى التلفاز و قال..
– من أجلهم
أعتدل الضابط في جلسته متعجبا و نظر الأب لأبنه في تعجب مخلوط بالحزن و ضمه لصدره و هو يقول..
-و ما ذنب البقال يا ولدي؟
في محاولة فاشلة من الطفل لمنع دموعه قال ..
– لقد أخبرتني يا أبي أن من يشتري حلويات المقاطعة خائن و يرسل النقود لقتلة أخوتي
قام الضابط من وراء مكتبه ليقف بجانبهم مملسا بكفه على رأس الصغير لتهدئته و سأله..
– أتفهم هذا الصراع يا صغيري؟
نظر الطفل من بين دموعه للضابط عاجزا عن فهم تلك الكلمة، أيقن الضابط مدى حماقته، أسيفهم طفل مثله تعقيدات هذه الكلمة؟ و هل يجب أن يكون الألم لقتل بريئ مقترن بالفهم؟، مر على ذاكرة الطفل مشهد رأه في هاتف والده لأخر جريمة أرتكبها الأحتلال و تذكر أشلاء الأطفال و جثث الكبار فزداد نشيجه و قال بصعوبة..
– أردت أن أنتقم ليامن فهو حزين و يبكي يوميا
نظر الضابط لوالده مستفهما فأخبره ..
– يامن صديقه في المدرسة، قتل جدته و جده في الأحداث الأخيرة
– لقد أخبرتني يا أبي أنهم أخوتي فلماذا يقتلوهم؟ و لماذا قتلوا خال صديقي سعيد؟ فهو يبكي أيضا من يوم أن قالت له والدته أنه أستشهد على حدود فرح
قال الأب شارحا للضابط ..
– خال سعيد يكون الجندي الذي استشهد يومها
قبل الأب جبين طفله و هو يصحح له..
– اسمها رفح يا بني و سيعمها الفرح عن قريب بأذن الله
قال الطفل معترضا..
– لقد أخبرتني عن رحمة الله يا ولدي، فلماذا يتركهم يأذونهم هكذا؟
هنا جلس الضابط بجانب الأب حابسا دموعه كي لا تهتز صورته و قال..
– سيرد الله الحقوق يوما ما أيها الرجل الصغير
و مسح بيده دموع الطفل و قال
– فطرتك سليمة يا ولدي، يسلم من رباك
و قال مبتسما محاولا تخفيف الموقف..
– لكن المرة القادمة قاطع فقط دون أن تشعل النيران.
خرج الأب عن صمته و قال للضابط..
– و من يخمد النار التي بداخلنا؟
عجز الضابط عن الرد كعجزنا جميعا و لكنه قال..
– فعل ابنك ما لم يفعل الكبار نصفه، فهم يبررون بالتفاهات عدم مقاطعتهم، و هو أقل شئ يقدمونه لهم
و حول نظره لصالح قائلا له في حنان ..
– حفظك الله يا ولدي و حمى فطرتك و أصلح بك إن شاء الله.
المزيد من الأخبار
ولنا مع الاكتئاب حكاية
فراشة الظلام
تمني