كتبت: إسراء سليمان
المشاعر، ياللوقاحتها!! تغير أناسًا وتعيدهم أحياءًا أو تحوّلهم أمواتًا، هكذا كانت تقول فداء لنفسها، وهي طفلة عندما حدث الانشقاق السوري لبلدها الحبيب، فحولها لميتة، إنها تعلم أن الجرح السوري غائر في جسد الوطن العربي كله، ولكنه ليس الجرح الوحيد، فهناك الجرح الفلسطيني والعراقي وغيرهم، هكذا جلست طفلة عمرها سبعة أعوام، تنظر من شرفة منزلها على الخراب الذي جال في جمال سوريا مدمرًا جنانها، وتتساءل عن كم العذاب الذي ستراه في الأيام المقبلة.
فداء طفلة في الصف الثاني تمتلك جمال سوريا في ملامح وجهها، ونضال العراق في عروقها، وفتنة لبنان في عينيها، وحزن فلسطين في قلبها.
كانت فداء تسبق عمر صاحباتها في المدرسة، كان لديها من العمر العقلي ما يضاهي عمرها السني مرتين، وكان أبوها مناضلًا ضد الحكم السوري الجائر، وكانت أمها تسانده، لكنها كانت تواصل مسيرتها التعليمية، كانت متيقنة أنه لن نستطيع أن نملك أنفسنا وقراراتنا ومصيرنا إلا بالوعي والمعرفة، فكانت متفوقة في دراستها.
صمتت أمام حبات البازلاء التي في طبقها لا تعرف كيف تلتقمها، فسألتها أمها:” فداء ماذا بك تناول طعامك هيّا وقت نومك اقترب!!”
فداء:”أمي، لا أرغب في تناول الطعام سأنام لأني متعبة تصبحين علىٰ خير، تصبح علىٰ خير يا أبي!!”
الأب:”تصبحين على خير يا حبيبتي!!”
لم تستطع الأم قول شيء، هي تعلم أن ابنتها ليست بتلك المدللة الرافضة للطعام فقط لأنها لا تهوى نوعه، تعلم أن ابنتها تحمل عمرًا أكبر من عمرها بكثير.
الأم:”فداء ،استيقظي، حان وقت الذهاب للمدرسة هيّا ستتأخرين هيّا، هيّا!!”
استيقظت فداء وفي غضون نصف ساعة اغتسلت، وصلّت وتناولت الإفطار وارتدت زيّها، وانتظرت الحافلة!!
نادت المعلمة :”صباح الخير يا فدوة(كانت تحب مناداتها بهذا الاسم)..!!
:”صباح الخير يا أ/مريم كيف حالك؟!”
فجاوبت المعلمة ثم كعادتها قصّت عليهم قصة هادفة طيلة الطريق على أمل زرع بذور القيم والأهداف والأخلاقيات في جيلهم.
المعلمة: نداء
نداء :”نعم!!”
(انمحت ابتسامة المعلمة وهي تقول درجتها) المعلمة :”٩ /٢٠ أحزنتينى يا نداء!!”، مروة
مروة :”نعم!!”
المعلمة :”٢٠/١٧”، كريم
كريم:”نعم!!”
المعلمة:”٢٠/١٩”، وأخيراً فداء!!
فداء:”نعم!!”
المعلمة:”أحسنتِ يا فداء لقد حصلت على الدرجة النهائية مبارك لكِ!!، صفقوا لها يا أولاد!! ”
ابتسمت فداء خجلًا من إطراء المعلمة لها.
أثناء العودة، قالت فداء لنفسها:” ياله من يوم طويل وشاق، لكن عوضني الله عن تعبه بدرجاتي، ستسعد أمي كثيرًا لو رأتها، كانت تعتقد أنني أهمل في دراستي، ولكن ظهر الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا!!!”
توقفت الحافلة فجأة، سمعوا صوت قصف، إنه على بعد شارع من منزل فداء!!”
كانت شاردةً ثم نظرت إليها المعلمة بعيون دامعة قائلة لها:”حبيبتى ما رأيك أن تبيتي الليلة معي ف….!!”
لم تكمل جملتها حتىٰ ظهر قويًّا صوت قصف آخر، وكانت المعلمة فزعة :”هيا أيها السائق ابتعد عن هنا قبل أن يؤذى الأولاد!!”
صرخت فداء :”منزلنا أبي وأمي!!”فجرَت ونزلت من الحافلة تجاه المنزل!!!
والمعلمة جرت وراءها:” فداء عودي!!”
تبطأت فداء وهي ترىٰ منزلها الدافئ محترق ومفحم ومتفتت!!!
السقف مدمر وطاولة الطعام منقسمة لشطرين، المطبخ أصبح ظاهراً للعيان، والأسرّة لم يتبق منها سوى الخشب المحترق المهترئ الذي كان يلم السرير داخله، الحائط انقسم لمجموعة كبيرة من الأحجار التى يظهر من أطرافها الإسمنت، أبوها محترق نصف وجهه ونصف جسده مفحم، وأمها أصابت القذيفة دماغها حتىٰ انشطرت وبرز المخ منها، لقد توُفيا، حتى صورتهم المجمعة احترق جانبيها (هذان الجانبان اللذان كانا يحتويان أغلى ما ملكت فداء “أبويها”)
صمتت فداء كانت تبكي فقط، وصلت المعلمة وجذبت فداء بعنف.
المعلمة:”هيّا…هيّا يا حبيبتي أرجوك هيّا…قد تصابين هنا بمكروه!!”
وفي المنزل اتصلت المعلمة بطبيب؛ ليعطي فداء جرعة مهدئ، ولمَّا ذهب.
بكت المعلمة؛ تذكرت أبويها اللذان توفيا في أوضاع مماثلة في حرب ٦٧ بعد احتلال الجولان السوري، إنه نفس الوضع ولكن الله أشد رحمة بفداء فقد وجدت منزلًا يؤيها، لكن معلمتها شُردت وعاشت في الشوارع حتىٰ حصلت علىٰ تلك الوظيفة بصعوبة بالغة، فعلًا يا الله **إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ**
المزيد من الأخبار
الحاجز الزمني
تمني
صرخات الأمل في ظل الظلم